فى عام 1958 سافر الدكتور أحمد النجار إلى ألمانيا الغربية لدراسة الدكتوراة فى الاقتصاد. وعندما وصل إلى ألمانيا أصيب بدهشة أن ألمانيا أعيد بناءها فى 14 سنة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945 .

والسؤال لماذا هذه الدهشة .. لأن الحلفاء دمروا البنية الأساسية: المصانع، البيوت، عدد الوفيات في هذه الحرب اقترب من 55 مليون نسمة.

تساءل الدكتور أحمد النجار: لماذا لم نفعل مثلهم، ونحن لم تدمرنا الحرب مثلهم؟ وعكف يدرس ويعايش في هدوء أسباب نهضة ألمانيا الغربية بعد الحرب. ألمانيا كانت تعاني الانكسار بسبب اتهامها بالنازية وأنها مدمرة للحضارة الإنسانية.

تم تقسيم ألمانيا إلى شطرين: غربية وشرقية تخضعان لنظامين اقتصاديين مختلفين أحدهما رأسمالي والثاني شيوعى. دراسة الدكتور أحمد النجار ركزت على ألمانيا الغربية؛ منبهرا بالإنجازات ومحبا للتجربة متفاعلا معها. (هذه نقطة مهمة في البحث العلمي أن يتفاعل الباحث مع موضوع البحث).

في أولى مشاهداته وجد أن الشعب الألماني يعتنق رؤية تقول "نحن الألمان من أفضل شعوب الأرض" أي مطلوب منا تحسين صورتنا وأن نعيد اعتراف العالم بنا على اعتبار أننا بناة حضارة وليس نازيين. وإن تركيبة القوى العاملة كان (75% نساء و25% رجال) لأن الرجال إما قتلوا في الحرب وإما في السجون. كيف يتم تحقيق الرؤية؟ سجل النجار المشاهدات التالية: -1 بنوك الادخار منتشرة في كل ربوع ألمانيا، وكان يتساءل: كيف لشعب فقير خارج من الحرب يدخر. الاقتصاديون يعرفون الادخار بأنه الفائض من الدخل بعد الاستهلاك وهم ليس لديهم فائض. ويكتشف أن الألمان يدخرون قيمة السلعة أولا ثم يشترونها ويعرف الادخار بأنه تأجيل إنفاق عاجل إلى إنفاق آجل ـــ هذا سلوك أمة وينقلنا ذلك إلى السبب الثاني

-2 الوعي المصرفي: أي أن المدخرات القليلة تودع في بنوك الادخار المنتشرة في المدن والقرى والنجوع، ووجد أن 95 في المئة من الشعب مدخر.

-3 نظام معلومات: يحوي ثلاثة عناصر. معلومات عن المدخرات، معلومات عن المشروعات المطلوب تمويلها، وفي أي مجال اقتصادي (زراعي، صناعي، عقاري.. إلخ).

حدد العلماء منهج التنمية بوضع خرائط تغطي كل المدن والقرى في ألمانيا، وظل العلماء الألمان يفاخرون بأن الحرب دمرت المصانع والبيوت لكنها لم تدمر العقول، وكيف يتم تمويل المشروعات والمدخرات لا تفي بحاجات الخطة وهنا تم وضع نظام معلومات للأولويات .. ما المشروعات التي تحتل الأولوية. يقول الدكتور أحمد النجار إن نظام الأولويات بدأ بالمشروعات التي تحافظ على كرامة وكبرياء المواطن الألماني، وتعمل على اسقراره وتحقيق الأمن الاجتماعي له، فبدأت الخطة بتوفير المسكن، والمأكل، والتعليم، والصحة، والزواج كأولويات. لكن السؤال ما أثر ذلك في الأداء؟ وهذا ينقلنا إلى السبب الآخر في تحقيق نهضة ألمانيا.

-1 الولاء: الشعب الألماني يدين بالولاء، والولاء ليس كلمات شعر تقال أو أغنية يتغنى بها الشعب الألماني، بل إن الولاء هو "إتقان العمل". يقول الدكتور أحمد النجار إنه كان يشاهد العامل الذي يقوم بتنظيف الشارع كأنه في محراب عبادة .. يقول صحة المواطن الألماني تبدأ من هنا. ولما كان يزور المدارس يجد المدرس يعمل بنشاط وكفاءة عالية .. ويقول هؤلاء علماء المستقبل، العمال في المصانع، في المزارع، الكل يتقن عمله. ويسأل الدكتور النجار ويكتشف أن الكل مرتبط برؤية يجب أن تحقق عمليا وليس أقوالا "نحن الألمان من أفضل شعوب العالم" فإذا صنعنا سيارة تكون أفضل سيارة في العالم، إذا كتبنا "صنع في ألمانيا" نكسب ثقة العالم. سأترك للقارئ الكريم الإجابة على السؤال - رغم أنه من المعروف عن ألمانيا أنها تضم خيرة العلماء والباحثين - هل نجحت ألمانيا ووصلت إلى مصاف الدول المتقدمة علميا وتكنولوجيا واقتصاديا؟ كل هذا يتم مع وجود أكبر قاعدة عسكرية أمريكية على أرض ألمانيا حتى اليوم. وهذا ينقلنا إلى السبب الأخير من وجهة نظر المرحوم الدكتور النجار.

-2 مشروع المساعدات "مشروع مارشال": بعد الحرب العالمية الثانية تمت صياغة قانون مساعدات لإعادة بناء أوروبا بعد الحرب.

أرسل الدكتور أحمد النجار رسالة إلى الدكتور محمد عبد الله العربي ـــ أحد رواد العمل المصرفي الإسلامي الذي بشر بوجود نظام مالي إسلامي ـــ يحكى له فيها مشاهداته في ألمانيا، وهو خال الدكتور أحمد النجار فبماذا أجاب الدكتور العربي على النجار؟ هذا موعدنا مع الرسالة التالية ـــ إن شاء الله.