المنتجات الصورية: مسؤولية من؟

إذا كنت تعيش في مجتمع متحضر، وذهبت لتناول وجبة من الطعام في أحد المطاعم ثم أصابك التسمم من جراء تناول تلك الوجبة فإنك تملك عددا من الخيارات كي تتعامل مع هذا الموقف:

أولاً: أن تسامح ذلك المطعم وتحتسب عند الله، وهذا سلوك فردي مرتبط بك كشخص أسقط حقوقه، مع تشديدي على أن هذا السلوك هو سلوك سلبي.

ثانياً: أن تشتكي إلى إدارة المطعم مباشرة وهنا ستتدخل إدارة ضبط الجودة في المطعم وإدارة خدمة العملاء لحل الإشكال.

ثالثا: أن تذهب وتشتكي إلى الجهات المسؤولة وعندها من المحتمل ألا تحتمل الروتين البيروقراطي لحل الإشكال والحصول على حقوقك.

رابعا: أن تذهب إلى جمعية حماية المستهلك، وهي مؤسسة مجتمع مدني تمارس الضغوط على أرباب الأعمال للالتزام بالمواصفات والمقاييس والتسعير، كما تمارس الضغوط على الجهات التشريعية من أجل استصدار قوانين صارمة للحد من ممارسات المطاعم التي تؤثر سلباً في المستهلكين.

خامساً: أن تجمع بين أي أو كل من الخيارات الثاني والثالث والرابع.

وإن استمر المطعم ـــ وانضمت إليه مطاعم أخرى ـــ في إنتاج الطعام الفاسد بما يؤدي إلى إصابة أعداد كبيرة من أفراد المجتمع بالتسمم، تصبح الآن المسؤولية جماعية لمواجهة الممارسات الخاطئة، وقد أثبتت تلك المسؤولية الجماعية نجاعتها في إجبار المطاعم الأمريكية الضخمة ـــ على سبيل المثال ـــ على الإعلان عن كميات السعرات الحرارية الموجودة في كل وجبة تقدم للعميل، إضافة إلى الحملات الإعلامية من أجل التنبيه إلى مخاطر تناول الوجبات السريعة باستمرار، ما أدى إلى فرض قيود مجتمعية وقانونية على تلك المطاعم كي تتوافق مع المفاهيم العامة السائدة.

وعلنا هنا نسقط واقع المنتجات المالية الإسلامية التي توصف بأنها "صورية" على المثال السابق كي نستطيع أن نحدد الأطراف التي تتحمل مسؤولية تلك المنتجات. فلو أنك تعاملت مع مؤسسة معينة واكتشفت أنك تتعامل في منتج مالي "صوري" فأمامك خيارات:

أولاً: أن تكون سلبياً، فتسكت وتسقط حقوقك الشرعية في التنبيه إلى "صورية" المنتج.

ثانياً: أن تتقدم بشكوى إلى إدارة البنك، وإلى الهيئة الشرعية وإدارة الرقابة فيه على اعتبار أنهما مسؤولتان عن ضبط الجودة الشرعية للمنتج والتحقق منها. وهنا يجب أن تعلم أن هناك تعارضا محتملا في المصالح بين إدارة البنك وموظفي الرقابة وأعضاء الهيئات الشرعية؛ لسبب بسيط وهو أن إدارة البنك هي التي تحدد وتدفع رواتب ومكافآت الخبراء الشرعيين الذين هم بالمحصلة بشر مثلنا.

ثالثاً: أن تذهب وتشتكي إلى البنك المركزي، وهنا لا تضمن حل مشكلتك لأن البنوك المركزية غير معنية بشرعية المنتجات المالية الإسلامية أو عدمها في كثير من الأحيان لعدم وجود هيئة شرعية عليا فيها أو عدم وجود إدارات للتفتيش الشرعي في أغلبية تلك البنوك المركزية.

رابعا: أن تذهب وتشتكي إلى مؤسسة المجتمع المدني المسؤولة عن ضبط ورقابة ممارسات المؤسسات المالية الإسلامية من الناحية الشرعية؛ وهنا ستجد أنه لا يوجد جهات مدنية مستقلة مسؤولة عن ذلك!!

خامساً: أن تجمع بين أي أو كلا الخيارين الثاني والثالث، وهنا بالتأكيد لن تحل المشكلة. لسبب بسيط، لأن العمل الشرعي يتسم بحالة من الفوضى التي ينتقدها القريب والبعيد. وعلني هنا أوجز حالة الفوضى من خلال تلخيصي للكتابات التي اطلعت عليها في مجال انتقاد المنتجات المالية "الصورية":

أولاً: هناك من يكتب وينتقد المنتج "الصوري" بحد ذاته، دون الإشارة إلى جهة بعينها حول تحمل المسؤولية، وذلك أضعف الإيمان.

ثانياً: هناك من يكتب ويوجه النقد للمؤسسات المالية الإسلامية ومديريها على اعتبار أنهم هم من يطبقون المنتجات، ويستغفلون الهيئات الشرعية ويغررون بها في كثير من الصفقات!! وهذا بلا شك ظلم كبير في تحميل المسؤولية لطرف واحد دون الأطراف الأخرى. وقد وجدت أغلبية من يكتبون في هذا الرأي، هم ممن يرتبطون بشكل أو بآخر بالهيئات الشرعية وعملها، أو ممن هم من طلبة العلم الشرعي.

ثالثاً: هناك من يكتب ويحمل المسؤولية للسلطات التنظيمية على اعتبار أن "الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن". وهذا الرأي وإن ظهر أنه وافق الحق، فإنه من وجهة نظري قاصر لأنه "كيفما تكونوا يولى عليكم".

رابعا: هناك من يكتب ويحمل "أيوفي" أو غيرها من الجهات المستقلة المسوؤلية، وهذا يكون قد وقع في خطأ كبير لأن تلك الجهات غير مسؤولة من حيث الرقابة على التنفيذ.

خامساً: هناك من يكتب ويحمل المسؤولية للهيئات الشرعية وإدارات الرقابة، دون غيرها، على اعتبار أن من تقدم للعمل في هذا المجال عليه أن يتحمل مسؤولية "الأمانة الشرعية" التي قد تفسدها الدراهم!! وهذا الرأي قريب إلى النفس إلى حد كبير، لكنه لا يصيب كبد الحقيقة لأن العاملين في المجال الشرعي هم من البشر أولاً وأخيراً، فلا يجوز تحميلهم مسؤولية كل ما هو حاصل إلا إذا كانوا هم من أرادوا أن يتحملوا تلك المسؤولية من خلال المشاركة في عضويات لا تحتملها الطاقة البشرية الفردية!!

وإذا ما تأملنا قرار تحميل المسؤولية من الناحية النفسية، فإن الدارج عند البشر هو تحميلها للحلقة الأضعف في السلسلة، على الرغم من أن السلسلة كلها تتحمل المسؤولية، أو تحميلها للحلقة الأقوى ـــ وهذا رأي الأقوياء ـــ على اعتبار أن تلك الحلقة هي التي تحوز على الثقة في تحمل المسؤولية.

المشكلة في سلسلة العمل الشرعي، أنها تشتمل على حلقات كلها ضعيفة وقوية في الوقت نفسه!! فالشرعيون أقوياء وضعفاء في الوقت نفسه، والماليون أقوياء وضعفاء في الوقت نفسه، ومؤسسات البنية التحتية قوية وضعيفة في الوقت نفسه، والسلطات التنظيمية قوية وضعيفة في الوقت نفسه.. والسبب الرئيس في هذه الحالة من الفوضى هو: "نحن كلنا" لأننا لا نريد أن نتحمل المسؤولية بشكل جماعي ونتقاتل على تحميلها للآخر دون إنصاف، مع تشديدي على عدم التساوي في تحمل المسؤولية بين الأطراف كافة.

فلو هب العملاء والعلماء والباحثون وكل الغيورين على الصناعة من أجل مواجهة ما يسمى بـ "الصورية" بطرق مؤسسية متحضرة لاستطعنا على الأقل أن نحصل على منشور يقدم من المؤسسات المالية للعملاء يوضح أن: "هذا المنتج صوري ومعتمد من الهيئة الشرعية وموافق عليه من البنك المركزي، ومتوافق مع معايير "أيوفي"!! وهذه الحالة لن تحصل أبداً لأنه بالوصول إليها سيكون المنتج بالتأكيد "غير صوري".

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي