ودَّعتُه وبودِّي لو يودِّعني... ومنتسبٌ عندي إلى من أُحِبُّه... مولاي وروحي في يده... ودِّع الصبر محبٌّ ودَّعك... ويا نسيم الصَبا بلِّغ تحيتنا... على قدر أهل العزم تأتي العزائم… ومكلِّف الأيَّام ضد طباعها… واحرَّ قلباه ممن قلبه شبم... كأنَّما هو في حلٍّ ومرتَحلٍ... بي مثل ما بك يا حمامة فاسألي... دع عنك لومي فإنَّ اللوم إغراء… وإذا كانت النفوس كباراً... إذ اشتبكت دموع في خدودٍ...
تداعت إلى الذاكرة هذه الأبيات وغيرها دون ترابط بينها أو بين دواعيها.. وأحسب أن ''الشجا الذي يبعث الشجا'' كان مثار انهمارها على الذاكرة التي كانت تستحضر بداية فكرة إنشاء ''مؤسسة التراث'' والتي كانت بداية إنشاء فكرة لم تُسبق هنا على الأقل. وأحسب أن ذلك مما امتاز به الأمير سلطان بن سلمان الذي تظل البدايات المستجدة التي قدَّمها ويقدِّمها، محط انتباه وموقع اهتمام. وإن كان لرحلته إلى الفضاء من عائدٍ غير الذي نعرف، فهو أن جعَلَتْه يلتفتُ إلى الأرض التي رآها تبتعد وتقترب ليعنى بتراثها، وتراثها العمراني خاصة.
السنوات التي مرت منذ إنشاء المؤسسة طوال.. والمبادرة بزغت، كما هي معظم الأفكار النيِّرات، من تحدٍ من سموه لمجلس إدارة الجمعية السعودية لعلوم العمران التي كان رئيسها الفخري، من أجل حثِّه على عمل شيء ملموس حيال التراث العمراني.. وكانت الإرادة: ''إن لم نستطع في الجمعية ذلك فسأفعل شيئاً.. لو لوحدي''. وتزامنت مع تلك الخطوة فكرة العناية بالصور التاريخية كمصدر لتاريخ المملكة. والتقت الفكرتان في بداية نمت وترعرعت حتى شملت أوجهاً كثيرة من التراث، فأصدرت المؤسسة نحو 40 إصداراً بلغات مختلفة، بدءاً بكتاب ''المملكة في عيون أوائل المصورين''، مرورا بسلسلة ملوك المملكة، وانتهاء بكتاب ''أمراء الرياض في عهود الدولة السعودية''. وقدَّمت سلسلة ''رواد العمران'' التلفزيونية'' التي عرضت على قناة البي بي سي، والتي مثَّلت تجاوز المؤسسة إلى العناية بالتراث العمراني العالمي.
رمَّمت المؤسسة ووثَّقت نحو 40 مبنى، من أبرزها: قصر المربع، ومحطة سكة حديد الحجاز بالمدينة المنورة. وتجاوزت في عملها حدود وثائق المناقصات لتقدِّم الأفضل الذي عنى في بعض الأحيان سعراً أقل. كما عملت المؤسسة على تطوير مواد البناء التقليدية، وخاصة الطين، الذي أصبحت لها به مهارة في الطرق التقليدية أو المطورة مثل البناء بالطين المضغوط الذي بنت به نماذج متميزة، من أبرزها: استراحة المغترة ومسجد الأمير أحمد بن سلمان. ولعله من جميل الطالع، أنَّ حضور المؤسسة في مشروعات التوثيق والترميم، شمل كل مناطق المملكة تقريبا، وتشرَّفت المؤسسة بأن كان لها حضور فاعل في المواقع التي انضمت إلى قائمة التراث العالمي.
كما نظَّمت المؤسسة أو شاركت في مؤتمرات عديدة، وورش عملٍ متعدِّدة، ومعارض مختلفة، لعل من أهمها، مؤتمر مدينة المستقبل، ومؤتمر التراث العمراني في الدول الإسلامية، وورشة النسبة والتناسب في العمارة الإسلامية. وقدَّمت المؤسسة المشورة لكثير من الجهات الحكومية والخاصة. واستطاعت أن تنفِّذ ''الأرشيف الوطني للصور التاريخية لمكتبة الملك فهد الوطنية'' الذي ضم في مرحلته الأولى أكثر من 27 ألف صورة من مناطق مختلفة من العالم. واستطاعت المؤسسة أن تكوِّن مجموعتها الخاصة من الصور التاريخية والتي تضم ''الألبوم الخاص بالكابتن شكسبير''. كما استطاعت المؤسسة الحصول على مجموعات من أهم الصور التاريخية لصالح جهات أخرى مثل: ''صور الأميرة أليس'' لصالح مكتبة الملك عبد العزيز العامة. وكان من أبرز المعارض ''معرض صور من شمال وغرب المملكة'' الذي أقيم في الرياض وجدة وباريس، ومعارض صور الأرشيف الوطني، ومعرض ''صور الرحالة الفرنسي كورتيلمون''.
تضم المؤسسة ''البرنامج الوطني للمساجد العتيقة'' بالتعاون مع وزارة الشئون الإسلامية''، حيث تم ترميم 12 مسجدا، منها بعض أهم المساجد التاريخية مثل: مساجد الغمامة وأبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب بالمدينة المنورة، ومسجد جواثا بالأحساء. كما تتشرَّف المؤسسة بتقديم ''جائزة الأمير سلطان بن سلمان للتراث العمراني'' التي أصبحت محط الاهتمام بمجالاتها المتعددة في العناية بالحفاظ على التراث العمراني وبتطويره وبحوثه، وشملت أيضا طلاب كليات العمارة والتخطيط بالمملكة في خطوة لحفز اهتمامهم بهذا الجانب المهم من التراث. وقد أعطت جائزة التميز مدى الحياة بعدا عالميا للجائزة ومنحت في الدورة الأولى لسمو أمير ويلز، وفي الدورة الثانية لمؤسسة الأغا خان للثقافة، وفي الدورة الثالثة للمهرجان الوطني للتراث والثقافة. كانت للمؤسسة مساهمات وطنية ملحوظة، من أبرزها: العمل على استعادة ثلاث مجموعات من آثار المملكة المهمة، في مقدمتها ''مجموعة بارجر'' التي عادت لتستقر في المتحف الوطني بالرياض. وأثارت المؤسسة بمبادرة من سموه، قضية العناية بالتراث العمراني في برامج التعليم الجامعي، وعقدت بموافقة معالي وزير التعليم العالي، ندوة كبرى في رحاب جامعة الملك سعود شاركت فيها جميع كليات العمارة والتخطيط بالمملكة. أما في جانب الأفكار والآراء، فقد شاركت المؤسسة بالكثير منها، وقد وجدت بعضها الطريق للتحقق بالتعاون مع جهات أخرى، مثل ''برنامج قصور الملك عبد العزيز''، و''متحف القرآن الكريم بالمدينة المنورة''.
ذلك بعض ''التراث'' التي أصبحت بعضاً من كثيرين من المهتمين الذين وجدوا في ما قدَّمته خطوة مثيرة للانتباه بما فرضته المؤسسة من مستوى في ما تقدمه سواء من الناحية الفكرية أو النواحي التنفيذية. وما زال في ''التراث'' الكثير من الآمال والطموحات التي تتجاوز ما تم. وفي مرحلة ربما تكون تجديديَّة، سأكون فيها مراقباً، يصبح الالتفات إلى ''التراث'' مختلفاً. فمجالات اهتمامها ضمن المفهوم الواسع للتراث ربما حان أن تتَّسع.. والفئات التي تُساقيها التراث حان أن تتعدَّد.. وحدود عنايتها الجغرافية ربما حان ليشمل تراثنا الإسلامي الذي نبع من هنا إلى أصقاع شتى من العالم. ومن واجب الوفاء هنا أن نذكر أن ''التراث'' كانت أوَّل من رفع الصوت بقناعات الأمير سلطان بن سلمان بالمفهوم الأشمل والأوسع للتراث، والتي تتجاوز حدود العاطفة وبوابات الأمس.
لا يجيد الوداع كثيرون.. وإذ أحسنه كما أعتقد، فما استطعته لـ ''التراث'' التي ستبقى، ليس بسبب طول الصلة، وإنما بسبب براعة فكرتها وحسن مسيرتها، علامة مضيئة استغرقت السنين الأجمل من العمر والأثمر من الجهد. وليس غريبا أن حقَّقَتْ ''التراث'' ما حقَّقَتْ فقد حظيت بدعم الأمير سلطان بن سلمان ورعايته، وهي نبتته التي أينعت. وليس غريباً أن لم تحقق ''التراث'' ما لم تحقِّقهُ بعد، فالرسالة طويلة، والمهمة كبيرة والمتطلبات جمة... وسيظل مأمولاً ما دام دعمه واهتمامه أن تستمرَّ ''التراث'' باقية يانعة. وستكون ''التراث'' يوما ما موضوع كتاب يحكي قصة إرادة وبراعة سبق.. وإن كان الأهم من ذلك أن ''التراث'' ستبقى وراء كثير مما تحقق، ويؤمل أن يتحقق حيال تراث المملكة الذي يعيش نقطة تحوُّل واعدة حيال الاهتمام به والتعريف بها محليا وعالميا، كمدى يُعرِّف بما لنا من جذور نقف ممتدين إليها واثقين شامخين بين حضارات الدنيا.
