اقتصاد الإبداع .. علاقات جديدة وغير مرتبة

يدور هذا الكتاب حول العلاقة بين الاقتصاد والإبداع، وليس الاقتصاد جديدا كما يقول المؤلف، ولا الإبداع أيضا، لكن الجديد هو العلاقة بينهما، وكيف يؤدي اجتماعهما إلى ثروة استثنائية، وقد أصبحت الملكية الفكرية في السنوات القليلة الماضية ذات تأثير كبير في الناتج الاقتصادي العالمي، وفي طريقة حيازة الأفراد لأفكارهم وامتلاكهم لها، يقول جون هوكنز: لقد أصبح ذوو الأفكار, أي أولئك الذين يملكونها, أكثر نفوذا ممن يشغلون الآلات، لكن العلاقة بين الإبداع والاقتصاد ما زالت غير مرتبة.

ويعرف المؤلف الإبداع بأنه القدرة على توليد شيء جديد، فهو يعني إنتاج الأفكار، أو الاختراعات ذات الأهمية والفائدة، وليس الإبداع بالضرورة فعالية اقتصادية، لكنه قد يصبح كذلك عندما يؤدي إلى فكرة ذات مردود اقتصادي، وإلى منتج يمكن الاتجار به، هذا التحول من المجرد إلى العملي، من الفكرة إلى المنتج، صعب التعريف، كما يقول المؤلف، فما من تعريف شامل للحظة التغيير التي تغطي جميع الاحتمالات، لكن في قوانين الملكية الفكرية بعامة فإن التغيير يطرأ متى تم تعريف فكرة، وبالتالي امتلاكها والاتجار بها، وتكون النتيجة بطبيعة الحال منتجا إبداعيا، أو لنقل ببساطة (اقتراح المؤلف) ''الإبداع هو البضاعة أو الخدمة الاقتصادية التي تنتج عن الإبداع وتكون ذات قيمة اقتصادية''.

#2#

موجة اقتصاد الإبداع
يقول المؤلف إن القيمة المالية العالمية لاقتصاد الإبداع عام 2005 بلغت نحو ثلاثة تريليونات دولار، وهي تنمو بمعدل 6 في المائة سنويا، وتستثمر الشركات الأمريكية نحو تريليون دولار سنويا في المنتجات الثقافية غير الملموسة، وهو يساوي الاستثمار السنوي في الزراعة والميكنة، وأسهمت الصناعات الأمريكية المعتمدة على حقوق النشر في الاقتصاد الأمريكي أكثر من أية صناعة أخرى، أي أكثر من الصناعة الثقيلة والسيارات والطائرات والطعام والشراب.

ويأتي بعد الولايات المتحدة في الاقتصاد الإبداعي اليابان التي تنفق إنفاقا عاليا في البحث والتطوير، وتستهلك بقدر عال من الصحف والتسلية الإلكترونية والكتب والسينما، ويعمل في أوروبا في مجال الاقتصاد الإبداعي أكثر من ستة ملايين شخص، وفي الوقت الذي تتضاءل فيه فرص العمل في القطاعات المختلفة فإنها في الاقتصاد الإبداعي تتزايد، وعلى نحو غير مباشر فإن العمل في الاقتصاد الإبداعي يحقق متوالية هائلة من النتائج والتحولات، فيدفع العاملين فيه إلى مواصلة التعليم والعمل المستقل الذي يطور الاقتصاد ويقلل التكلفة ويزيد التشغيل.

وتزدهر اليوم الأعمال اليدوية في سوق الفن وفي السياحة والترفيه، وتبلغ قيمة هذه السوق في الصين 15 مليار دولار، وتنمو سوق الفنون على نحو غير مسبوق، وتشتمل أسواق الفنانين المحترفين الكبار على نحو 12 مليار دولار، وتبلغ قيمة اقتصاد التصميم 140 مليار دولار، ويساوي الاقتصاد العالمي في مجال البرمجيات 600 مليار دولار، ويساوي اقتصاد تصميم الأزياء 60 مليار دولار، وتنتج صناعة الأفلام نحو ثلاثة آلاف فيلم في العام، تصل قيمتها إلى أكثر من 80 مليار دولار، ويحقق قطاع الموسيقى في العالم أيضا 80 مليار دولار سنويا، وتبلغ قيمة الاقتصاد في المسرح 50 مليار دولار، وتبلغ قيمة السوق العالمية للكتب والمجلات والصحف 126 مليار دولار.

رأسمال العقل
تبدو المنتجات الإبداعية أكثر وضوحا في مجال الفنون، ذلك ما أدى إلى التعامل مع الفنون والإبداع على أنهما وجهان لعملة واحدة، لكن الفنانين لا يحتكرون الإبداع، وليسوا هم المشتغلون الوحيدون في حقل اقتصاد الإبداع، فالإبداع يزدهر أيضا في العلوم، بخاصة في مجالات البحث والتطوير، والإبداع أيضا حاضر في جميع مستويات الأعمال في الشركات والمؤسسات، وبخاصة مع دخول الإنترنت وتقنيات المعلومات واندماجها في العمل والإدارة والتسويق.

ويستذكر المؤلف مقولة لينين في بداية القرن العشرين ''الشيوعية هي المنظمة السوفياتية مضافا إليها الكهرباء، وفيقول إن الاقتصاد الجديد في القرن الحادي والعشرين هو الإبداع مضافا إليه الإلكترونيات''.

هل يمكن اعتبار موهبة الإبداع رأسمال؟ يتساءل المؤلف، فرأس المال هو مستودع ثابت ومستمر، وكان الشكل الأساسي له هو النقود والموجودات والأصول، لكن تطور صناعة الخدمات واقتصادياتها أدخلت مفاهيم جديدة إلى رأس المال، فالبحث والتطوير والإعلان والتسويق ومعالجة البيانات أنشأت أسواقا وموارد وآفاقا جديدة للأعمال، ومن الواضح بالطبع أن المصدر الأكثر قيمة في هذه الصناعات هو الموارد البشرية.

صاغ فريتز ماخلوب مصطلح ''الاستثمار الفكري'' في ستينيات القرن العشرين، وبينت أبحاث دينيسون وكيندريك أن الاستثمارات في مجالات التربية والتعليم والتدريب زادت من قيمة القوى العاملة، وزيادة الإنتاجية، فقوة العمل هي رأسمال، ويمكن قياسه أيضا، وهنا تتشكل فرص عظيمة وذاتية أمام الأفراد وجميع الناس لتعليم أنفسهم وتطوير قدراتهم، وبالتالي زيادة مواردهم وقيمتهم في العمل والسوق.

وفي بعض الأحيان يسمى هذا النوع من الاقتصاد رأس المال الفكري، وهو ما بدا فيما بعد واضحا وبدهيا بعد تجربة ''ميكروسوفت''، لكن قبل ذلك كانت تنشر ملاحظات ودراسات كثيرة، كيف يجعل التصميم من الصحف ووسائل الإعلام أكثر فاعلية وقدرة على الانتشار وزيادة الموارد؟ وكيف أن القدرات والنتائج في قطاع الصحة على تزيد ليس فقط بسبب معارف الكوادر المتعلقة بالمواد الطبية والتمريضية، ومهاراتها المهنية، ولك بما يعلمونه حول علمهم، بما في ذلك التعامل مع المريض وذويه وإراحتهم، وفي كثير من الأحيان يعبر عن مثل هذا النوع من الموارد أو رأس المال بـ ''الشهرة'' والسمعة أو الاسم، لكن الأكثر حضورا في الاقتصاد اليوم هو ''الثقة'', بل يمكن القول إنه اقتصاد الثقة.

قدرت وولف أولينز هي شركة استشارات استراتيجية وتصميمية مركزها لندن، أنه في عام 1989 كانت الأصول المادية والمالية لأكبر 350 شركة مدرجة في سوق الأسهم في لندن تشكل 60 في المائة من إجمالي قيمتها في السوق، وبعد عشر سنوات هبطت هذه الحصة إلى 28 في المائة، فإذا كانت هذه الأرقام دقيقة فإن المستثمرين البريطانيين كانوا يعتقدون أن أكثر من 70 في المائة من قيمة تلك الشركات لم تكن تمثل في حساباتها السنوية، وتقدر شركة كلين أند كو، وهي وكيل إدارة في سوق التأمين أن القيمة الفكرية تصل اليوم إلى 75 في المائة من إجمالي قيمة الشركات الخمسمائة المدرجة في ''فورتشن''، وتقدر دراسة لمجموعة برايس ووتر هاوس أن ثلثي رسملة سوق الأسهم للشركات الأمريكية في نهاية عام 1999 كانت تعزى إلى أصولها الفكرية، أي أنها أيضا لم تظهر في الميزانية العامة.

ويحتسب القسم الأكبر من رأس المال الخفي هذا من خلال الماركات والعلامات التجارية، فكثير من هذه العلامات كانت تعتمد على اسم التاجر نفسه أو على ظروفه الشخصية، وأصبحت اليوم تساوي مليارات، وقد احتسبت شركة إنتربراند المتخصصة في مجال الماركات أمس ديزني الذي كان في الأصل مجانيا بقيمة 32 مليار دولار، ويرد أكثر من 59 في المائة من رسملة ''كوكا كولا'' البالغة 120 مليار دولار إلى اسم الماركة، وبلغت هذه القيمة في منتجات نايكي الرياضية بـ 77 في المائة.

الاقتصاد الجديد
يعرض هذا الجزء ملخصا لفصل سماه المؤلف ''انقر وامض'' ويقصد الإشارة إلى ما فعلته الحواسيب بالاقتصاد والموارد، ويختار المعماريين كأفضل نموذج في هذا الاقتصاد الإبداعي وليس مبرمجي ومهندسي الحاسوب على عكس المتوقع أو عكس ما توقعته أنا على الأقل.
ذلك أن العمارة أكثر حضورا في حياتنا وأكثر جماهيرية مما نظن للوهلة الأولى، والمباني الجميلة والأصيلة تحسن الكوكب، والأخرى تهيننا.

ويمكن بسهولة وبساطة اليوم تخيل كيف أثرت وغيرت الإنترنت في الاقتصاد والموارد، والحياة بعامة، ويتذكر جيلي كيف أن الحواسيب كانت في السبعينيات ما زالت بطيئة، ولم تكن قادرة على أكثر من معالجة الأفكار التي يمكن التعبير عنها بسهولة وسرعة، سواء لغوية أو رقمية، لكنها اليوم تعمل بما يقترب من طاقة الإنسان وقدراته أو يحاكيها من نصوص وأصوات وصور، وانتشار وحركة هائلة وبسرعة عالية جدا، على نحو يجعل الإنتاج والتوزيع عملية جديدة مختلفة عما تعودت عليه البشرية في تاريخها بما في ذلك مرحلة الثورة الصناعية، فأرقام النقل والتبادل اليوم عبر الإنترنت بالغة الصخامة، نقل المعلومات والتصاميم والعقود والكتب والتقارير والرسائل والمحادثات والاستشارات والنقاشات والاجتماعات، كما لو أننا نعمل في غرفة واحدة، لكنه فريق يتكون من ملايين البشر، وفي بعض الأحيان مئات الملايين، إننا في الحقيقة نشارك في سوق وأعمال لا ندرك مستوى الإبداع والخيال فيها، والمدى البعيد الذي وصلت إليه، ذلك رغم مشاركتنا فيها ومعرفتنا الكثير عنها، لكن نكتشف أحيانا أننا لا نعرف الكثير.

إدارة الإبداع
إن الاقتصاد الإبداعي اليوم يمثل القطاع الرئيس والمهيمن في المهن والأعمال والتجارة والاقتصاد، وصار المقياس الأساسي للتقدم الاقتصادي، ويندرج في هذا المجال الملكية الفكرية، وحقوق النشر، والنماذج، والعلامات التجارية، والتصاميم، وبراءات الاختراع، والأعمال الفنية، والموسيقى، وبرامج الحاسوب، والتصوير الضوئي، والأفلام، والفيديو، والألعاب، والعمارة، والبحوث، والتطوير، وتصميم الملابس والمنتجات.

وهو اقتصاد يتطور مع تطور التقنية وبخاصة في مجالات الاتصالات والمعلوماتية، وبالارتقاء الإنساني وتطور حاجاته، فالإنسان يتطلع بعد تلبية احتياجاته المادية إلى الاحتياجات الروحية والفكرية، وهذه المنتجات بدورها تطور وتعظم الموارد المادية الملموسة والاحتياجات المادية أيضا كالعمارة واللباس والطعام، ويمكن ببساطة ملاحظة الإبداع والخيال في تطوير وتعظيم هذه المرافق والاحتياجات، وكأن الأمم تتقدم وتزيد مواردها بما تملك من جمال وخيال! يقول المؤلف جون هوكنز مخاطبا كل فرد للمشاركة في هذا الاقتصاد المهيمن اليوم: الإنسان كائن إبداعي، ويستطيع أن يجعل من إبداعه موردا ماليا, إضافة إلى كونه أداة لتحسين حياته باستمرار، ومن القواعد والنصائح التي يقدمها: طور نفسك، كن فريدا، وحافظ على أفكارك قانونيا، واستوعب مجال حقوق النشر وبراءات الاختراع، وقرر متى عليك أن تعمل بمفردك ومتى عليك أن تعمل في مجموعة، وتعلم إلى ما لا نهاية، اقتبس وأعد اختراع الأشياء واستخدامها، وتعلم متى يجب أن تتجاوز القواعد.

وبالطبع يمكن ببساطة ملاحظة كيف أسهم الإبداع في تطوير الحياة والموارد والمرافق والأفكار، لكنها ملاحظة تنطوي للوهلة الأولى على إحباط وانسحاب، لأن الأمثلة هنا ستكون عن الاختراعات والأفكار الكبرى والعظيمة، كالعجلة والنار واللغات والكهرباء، لكن هناك الملايين من الأفكار الصغيرة والإبداعية التي غيرت إيجابيا في حياة الناس وموارد الأفكار، وهي ما يجب أن نبحث عنه ونفكر فيه باستمرار. يقول كامل إدريس مدير المنظمة العالمية للملكية الفكرية: إنها معادلة بسيطة: كي نعيش يجب أن نبدع، فالإبداع موهبة إنسانية شاملة لجميع الناس، فجميع الأطفال يرسمون، لكن عندما يكبرون قليلا يقال لهم إنه لا فائدة مما يعملون، وجميع الأطفال يحلمون، لكن تجاهل أحلامهم يجعلهم لا يتذكرونها، والمبدعون في الحقيقة هم من يملكون القدرة أو الميل الطبيعي لاستخدام مواهبهم وإبداعاتهم.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي