في الوقت الذي يناقش فيه الكتاب والمثقفون، البطالة وسبل إيجاد فرص عمل لتوظيف واستيعاب الشباب السعودي العاطل عن العمل في بلدنا، الذي يشكل الشباب منه قرابة 60 في المائة من عدد السكان، نفاجأ بظهور مخدر أو مضلل، يسعى لإلهائنا عن أصل المشكلة الحقيقي. هذا المخدر، الذي يراد به تعطيل عقولنا عن التفكير في إيجاد حلول لواحدة من أهم مشاكلنا، هو ظاهرة ما صار يسمى المقاييس، أو مراتب التقييم العالمية. آخر صرعة لنتائج التقييم العالمي هذه، يبشرنا بأن المملكة تقدمت من المرتبة الرابعة عشرة إلى المرتبة الثامنة، بين أفضل دول العالم التي تتمتع بفرص استثمارية!! لا أدري، أمام الرقم المعلن فقط للعاطلين السعوديين عن العمل من الجامعيين، الذي وصل إلى نصف مليون، هل نصدق مقياس التقييم العالمي، بما لدينا من فرص استثمار تخلق وظائف، وبالتالي نهنئ أنفسنا، ونهنئ هيئة الاستثمار على ما تسميه المستثمر الأجنبي، الذي وجد الفرص معروضة عليه على طبق من ذهب؟
أم ترانا نعزي شبابنا، واقتصادنا الوطني، لأن ذلك التقييم ليس إلا شكلا من أشكال التضليل، وأن الحقيقة تعني واقعا يتمثل في ضيق الفرص على توطين الاستثمارات، وسبل كسب الرزق الكريم للمواطن. السؤال هنا: إلى متى نُخدع بتلك التقييمات، التي تفتقد دراسات ذات دلالة وقيمة اقتصادية، ما دامت فشلت في أن تقدم تصورا صحيحا، تقل فيه نسبة البطالة، وفي إيجاد تنمية حقيقية تخلق فرص عمل لأبناء البلد، وتساهم في نهضة المملكة صناعيا واقتصاديا. أليس في واقع الأمر، من الأفضل لنا أن نكون في آخر القائمة وفي ذيل ذلك التقييم ؟!! وبذلك عمدنا بجهودنا الذاتية المدروسة إلى تقليص حجم العمالة الأجنبية الوافدة، وخلق بيئة استثمار وطنية صحية، يستفيد منها المواطن وينهض بها الوطن.
وما دام أن الشيء بالشيء يذكر، فهذا التقييم يذكرنا بما حدث في الثمانينيات الميلادية، عندما حصلت المملكة العربية السعودية من منظمة الفاو، وهي اختصار لمنظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (Food & Agriculture Organization; FAO)، على جائزة السعفة الذهبية في الاكتفاء الذاتي في إنتاج القمح. لكن الواقع أننا حصلنا عليها بعد أن ضحينا بثروة مائية هائلة، واكتشفنا أن مثل تلك الجوائز هي نوع من المجاملة على أقل تقدير، لأنه لو حصلت عليها دولة لديها ثروة مائية، مثل مصر أو السودان، فسيكون للحصول عليها معني حقيقي، خصوصاً أن هذه الدول لديها وفرة في المياه وأيد عاملة. لكن المؤسف في وضع تلك الدول، أنها تستورد الخبز الذي تأكله، وهو ما يعد تهديداً لأمنها الوطني. الدرس هنا، أن الاكتفاء الذاتي مطلب وطني وسيادي، لكن المحافظة على المياه النادرة والشحيحة، أكثر وطنية وسيادية، وأمر يستحق أن ننال عليه أعلى الجوائز والأوسمة.
السؤال الذي يطرح نفسه دائماً: ما الهدف من التنافس في الحصول على مراكز متقدمة في مقاييس وبرامج تقييم خارجية، مشكوك في صحتها، ولا تخدم أهداف التنمية والمصالح الوطنية؟ هل هي نوع من أساليب تلميع الأشخاص، أو مؤسسات معينة؟ إن خير وسيلة لإبراز نجاح أي مؤسسة وإدارتها: هو الحصول على الرضا الشعبي عن أداء تلك المؤسسة، لأن ذلك هو المعيار الحقيقي لنجاحها!! أحيانا تكون الأمور عكسية، إذ قد يفسر التسابق في الحصول على نتائج متقدمة وهمية، بأنه نوع من صرف الرأي العام عن القصور والترهل في تلك المؤسسة، وإشغاله بالإنجازات الوهمية.
