"الاقتصادية" وتجسيد حقوق المجتمع على القطاع الخاص
قامت جريدتنا الغرّاء "الاقتصادية" أخيراً بإطلاق مجلة "الوظائف" The Jobs، كأول مجلة سعودية مجانية متخصصة في إعلانات الوظائف، وهي نصف شهرية ممكن وبسهولة إنزالها من موقع الجريدة وحفظها. تعتبر هذه البادرة نقلة نوعية غير مسبوقة في الطريق الصحيح لتجميع أوراقنا الدعائية التوظيفية المتناثرة في كل اتجاه وجانب، وفي وقت فيه شبابنا في أمس الحاجة إلى بوصلة تهديهم إلى حيث وجود الوظائف. هذا بالطبع ليس بمديح للجريدة والقائمين عليها فهم ـــ جزاهم الله خيراً ـــ ليسوا في حاجة المدح، بقدر ما هو واجب وطني تجاه المجتمع وأبناء المجتمع يجب الإشادة به.
حينما أتحدث عن تجسيد حقوق المجتمع هنا فأنا أعني بذلك التنازلات الربحية الإعلانية للجريدة لصالح الجهة المعلنة لوجود الوظائف، حجم الإعلان يساوي تقريباً ربع صفحة على مقياس النسخة الورقية، وبحساب عدد الأيام التي سيبقى فيها الإعلان قابلا للفتح والتنزيل لكم أن تتصوروا حجم التنازلات الربحية التي تخّلت عنها الجريدة لصالح أبناء وبنات الوطن. هذا إضافة إلى المصاريف التي تتكبدها الجريدة على الندوات والاجتماعات التي يتبناها "نادي الاقتصادية"، التي من خلالها يتم دورياً جمع كبار مسؤولي القطاع الخاص والاقتصاديين والكتّاب ورجالات الصحافة لبحث الوسائل التي في مجملها ومن خلالها يتم البحث عن إيجاد الحلول وتشجيع القطاع الخاص بالمبادرة بالعطاء وتبني المسؤوليات الواجبة عليهم تجاه المجتمع وأبنائه. هل تبدو المعادلة هنا مقلوبة رأساً على عقب؟ أليس من المفترض أن يقوم القطاع الخاص بتحمّل المصاريف ومعاضدة القطاع الإعلامي لمساعدته على الوصول إلى الوفاء بتحقيق مسؤولياته الاجتماعية؟ لذلك من الواضح أن القائمين على الجريدة فهموا المعادلة جيداً وقاموا بالأخذ بالمبادرة بالرغم من العلم المسبق بأن القطاع الخاص هو المستفيد الأول والأخير من هذه الجهود والتنازلات والمصاريف التي يتكبدونها والتي يقوم بها القائمون على الجريدة. هذا الإصرار على إيصال الرسالة إلى القطاع الخاص سيؤتي ثماره عاجلاً أم آجلاً، فقط يحتاج الأمر إلى مزيد من العطاء والتضحية الإعلامية عن طريق استخدام جميع الوسائل المتاحة للضغط غير المباشر على القطاعين الخاص وشبه الحكومي للقيام بواجباتهما تجاه المجتمع. لا أثبت هنا امتناع القطاع الخاص عن المشاركة في خدمة المجتمع، فأقصر الطرق هو كتابة شيك وإهدائه إلى إحدى الجمعيات الخيرية والتفضل بالتصوير الإعلامي والتأكد من نشر الخبر في جميع الصُحف المحلّية.
تدهشني كثيراً الاختلافات الإقليمية في التوجه والتعامل مع إعطاء المجتمع حقه من قِبل القطاع الخاص، قد لا يجانبني الصواب في ذلك، ولكن ـــ بحسب خبرتي الطويلة في القطاع الخاص وتجوالي في جميع أنحاء المملكة ـــ لمست من خلالها أن القائمين على القطاع الخاص وكبار التجار في المنطقة الشرقية أكثر تجاوباً وتجسيداً وعطاء للمجتمع عن بقية مناطق المملكة، وهذا ليس بتقليل من شأن عطاءات القطاع الخاص للمناطق الأخرى، ولكن هو واقع محسوس على الأرض لمن يريد أن يتأكد. توجد بعض المحاولات في المنطقة الغربية ولكنها أشبه ما تكون بمشاركة المجتمع فيما يُعطى له من القطاع الخاص بدلاً من بساطة إعطاء المجتمع دون مقابل. في الحقيقة ذاكرتي لا تسعفني هنا لأِتذكر وجود مستشفى خيري مجاني قام القطاع الخاص بتشييده للعلاج المجاني في أي مدينة من مدن المنطقة الغربية، لم أسمع عن منح أحد التجار قطعة أرض تقدّر قيمتها بمئات الملايين من الريالات لوزارة الصحة لإقامة مستشفى عليها لخدمة المجتمع، وربما في هذه الحالة العكس صحيح ولنا في كارثة سيول جدة وما جاء بعدها كثير من الدروس.
المنطقة الوسطى موضوع آخر، فتقريباً جميع المراكز الرئيسة لشركات القطاعين الخاص والحكومي وشبه الحكومي تقبع في قلب المنطقة، وسنوياً يتم الإعلان عن مليارات الريالات كأرباح صافية لكبريات شركات القطاع الخاص سواء كان قطاع البتروكيماويات أو القطاع المصرفي أو قطاع الاتصالات، أين نصيب متلازمة داون؟ أين نصيب التوحُد، أين نصيب براركنسون، أين نصيب دار الأيتام، أين نصيب دار العَجَزة، أين نصيب الفَشل الكلوي (كانت الرسالة تساوي خمسة ريالات، ثم أصبحت 12 ريالاً .. هل ارتفعت أسعار غسيل الكِلى أم لم تتنازل شركات الاتصالات عن قيمة الرسالة؟).
بناء مبنى حديث لأطفالنا المصابين بمتلازمة داون وتشغيله على مدى عشرات السنين لا يتطلّب كثيرا من هذه المليارات، ولا أظن أن مجالس الإدارة لهذه الشركات والمصارف الضخمة سيبخلون بالقليل من كثير لأجل هؤلاء الأطفال. هي مجرد فكرة ويمكن أن نبني عليها مشاركاتنا الفعلية لهذا الوطن وهذا المجتمع المتسامح.
دعائي لكم بدوام الصحة والعافية.