تتناقل وسائل الإعلام ومراكز الأبحاث والمنظمات المالية الدولية في هذه الأيام أخبارا غير سارة عن مسيرة الاقتصاد الدولي، وتشير تقارير كبار الاقتصاديين، وبالذات من الحاصلين على جوائز نوبل في الاقتصاد، إلى أن الاقتصاد الدولي مقبل على أزمة حادة ستلحق أضرارا بالغة بالاقتصاد العالمي، وإن الكلام عن تعافي الاقتصاد من الأزمة المالية التي ضربته في عام 2008 لا يخلو من المبالغة، وتجمع التقارير على أن مركزي الأزمة القادمة ستتفجر من منطقة اليورو ومن قلب الاقتصاد الأمريكي المتعثر!
قال ديفيد بوكس في مقال له في صحيفة ''نيويورك تايمز'' في الأسبوع الماضي: ''إن المشاكل الاقتصادية الحالية بنيوية ومشكلات السوق عميقة، ولا يمكن معالجتها''، ورأى أن الولايات المتحدة تفقد ريادتها شيئا فشيئا، وهي الآن تذكرنا ببريطانيا العظمى عقب الحرب العالمية الثانية، وتوقع بول كروجمان الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد في عام 2008 أسوأ من ذلك، حينما يعطي الناخبون أصواتهم ـــ كما هو متوقع ـــ إلى الجمهوريين.
ومن ناحيته، قال فيرنون سميث الحائز جائزة نوبل في الاقتصاد في 2002 في صحيفة ''وول ستريت جورنال'': ''يجب مواجهة الأمور بكثير من الحكمة والشفافية، علينا أن نعيش على الأرجح مخاضا طويلا جدا قبل أن نخرج من الأزمة التي ما زلنا نعيش مع بقاياها، إن مؤشرات ثقة الشركات التي حققت تقدما ملموسا في الأداء تفيد بأن الاقتصاد العالمي خرج من الكساد في عام 2009، لكنها لا تقول لنا شيئا مهما عن طبيعة واستدامة التعافي وضمان القدرة على الوفاء بالديون، وبالذات من جانب الدول التي تسمَّى بالدول الطرفية.
أمّا الاقتصادي الشهير نورييل روبيني فما زال يبشر بالأسوأ، وهو أول من بشّر بأزمة الرهن العقاري في أمريكا، وقال روبيني في أحد المنتديات الاقتصادية في إيطاليا أخيرا: ''إن الولايات المتحدة استنفدت كل ذخائرها، وأي صدمة صغيرة في هذه المرحلة يمكن أن تدفع بها إلى براثن الانكماش والركود''.
ويعبر اقتصاديون آخرون أقل اتصالا بوسائل الإعلام عن توقعات أسوأ للاقتصاد العالمي في العقد الأول من العام القادم، فلورانس كوتليكوف الأستاذ في جامعة بوسطن ما فتئ يحذر منذ الثمانينيات من خطر العجز العام، وفي نظرة موغلة في التشاؤم توقع كوتليكوف نشوء خلاف تجاري بين الولايات المتحدة والصين سيدفع ببكين إلى تصفية سندات الخزانة الأمريكية، وستنتقل العدوى إلى جميع أنحاء العالم، وإذا حدثت توقعات كوتليكوف فإنها ستؤدي إلى خروج مبالغ هائلة من الأموال من الولايات المتحدة، في مقابل أن يقوم الاحتياطي الفيدرالي في ضخ مبالغ هائلة في النظام المالي الأمريكي؛ ونتيجة لذلك فإن الاقتصاد يتعرض لتضخم مفرط وهائل.
وفي واشنطن تسلل التشاؤم إلى صندوق النقد الدولي، وأرسل الصندوق مذكرة إلى مجموعة العشرين عبَّر فيها عن تخوفه من موجة ثانية من أزمة العقارات في الولايات المتحدة بخسائر غير متكافئة للمصارف الصغيرة والمتوسطة، ويرى الصندوق أن هذا قد يؤدي إلى تراجع ثقة الأسواق في الانتعاش.
ولكن الصندوق لم يعطِ أي توقعات بالأرقام، لكنه يرى أن هذا القلق يأتي من المبالغ التي اقترضتها دول منطقة اليورو على الآجال القصيرة، وأشار صندوق النقد الدولي إلى أن الدَّين العام الذي يستحق في الاقتصاديات الضعيفة في منطقة اليورو في النصف الثاني من 2010 وفي 2011 يتجاوز 400 مليار دولار، وحذَّر الصندوق من أن أي اضطرابات في أسواق سندات الخزانة الناجمة إمّا عن فشل عمليات إعادة التمويل أو نقص في رؤوس الأموال في القطاع المصرفي.. قد تزيد الضغط بشكل كبير على الماليات العامة وتؤدي إلى فقدان الثقة بالأسواق وتتسبب ـــ بالتالي ـــ في تقليص جديد وكبير لميزانية الدول التي تواجه صعوبات قد تؤثر سلبا على الانتعاش العالمي، ولم يشأ الصندوق أن يسمّي هذه الدول، لكنه على الأرجح كان يعني تلك التي يعتبرها المستثمرون الأكثر مجازفة مثل إسبانيا واليونان وإيطاليا وإيرلندا والبرتغال، وهذه الدول ستواجه مشكلة إعادة تمويل مبالغ تصل إلى 400 مليار دولار، وحتى حينما نجرى تقييما معتدل التفاؤل في الإصلاحات التي تجريها الحكومة اليونانية، فإن القدرة على الوفاء بالديون أمر مشكوك فيه.
ولكن الصندوق لم يغلق أبواب الأمل، بل أشار إلى أن انتعاش الاقتصاد العالمي سيستمر، لكنه سيضعف بحلول نهاية هذا العام وفي النصف الأول من 2011، ولا بد من الإشارة هنا إلى أن خطط الإنقاذ التي تبنتها الحكومات الغربية خلال الأزمة المالية العالمية تعتبر ـــ بلا شك ـــ أكبر تدخل حكومي في السوق منذ الركود الكبير الذي تعرض له الاقتصاد الدولي في الثلاثينيات من القرن الماضي، رغم أن الغرب يدعي أنه يمارس حقه في اقتصاد حر.
وما يجب أن نشير إليه هو أن وضع إسبانيا جيد في الوقت الراهن، أمّا البرتغال فإن مجموع دينها الخاص والعام يزيد كثيرا عن 200 في المائة من ناتجها المحلى الإجمالي، في حين أن المشكلة الرئيسة في إيرلندا هي القطاع المصرفي، ولقد أجرى الاقتصاديان بيتر بون وسايمون جونسون بعض الحسابات الرياضية، ووجدا أن المقدار الإجمالي للدين يحتمل أن يبلغ ـــ مع دين الحكومة الإيرلندية ـــ ثلث الناتج المحلي الإجمالي، واستخلصا أنه في ظل أسعار فائدة الأسواق لفترة عشر سنوات ـــ بالمستويات الحالية القريبة من 6 في المائة ـــ فإن إيرلندا غير قادرة بالفعل على الوفاء بديونها، وحتى تتمكن إيرلندا من إصلاح ذلك ستكون في حاجة إلى توليد معدلات هائلة من النمو المحلي الإجمالي سنويا.
إننا إذا استعرضنا الأزمات العالمية، فإننا نجد أن الغرب هو الذي تسبب في كل الأزمات، وأن الغرب هو الذي ألحق أضرارا بالغة بالمال العالمي والبيئة العالمية.
وبهذه المناسبة فإنني أؤكد أن الاقتصاد الدولي لن يتحمل أزمة كتلك التي صفعته في عام 2008؛ لأنه استنفد كل أسلحته، كما قال الاقتصادي العالمي نورييل روبيني الذي بشّر بأزمة الرهن العقاري، ولم يعد لدى الغرب أسلحة يواجه بها أزمة جديدة، وبالذات حينما تكون الأزمة أكثر حدة وضراوة، وهنا يكمن السؤال المهم: من سيدفع الثمن في هذه المرة، وما هو حجم الثمن الذي ستدفعه الدول الناشئة التي بدأت تضيق ذرعا بأسقام الاقتصاد الغربي الذي بات يئن وينثر أمراضه في كل أنحاء الاقتصاد العالمي؟
