أشهد «أن لحوم العلماء مسمومة» (2)

أحدث الجزء الأول من هذه المقالة جدلاً واسعاً عكسته الردود التي تلقيتها بمختلف الوسائل التقنية والبدائية. وما يهمني في الجزء الثاني منها هو توضح بعض الأمور التي حملت على غير محملها ففهمت خطأ من المادحين قبل العاتبين.

ولعل المشكلة الأساسية التي أستطيع استنباطها من خلال الردود التي وصلتني هي تجزئة القراءة والوقوف على أمور معينة دون النظر إلى جملة ما ورد في المقالة. فالكتابة المتعلقة بالرأي هي رسالة لها مقدمة ومتن وخلاصة. ومن أصعب أنواع الكتابة، الكتابة النقدية ولا سيما في مجتمعاتنا لأن “إرضاء الناس غاية لا تدرك”، ومن أسوأ أنواع النقد هو الذي لا يقدم الحل أو الذي يعدم بصيص الأمل في آخر النفق.

وعلني هنا في عجالة أورد بعض الردود التي تلقيتها وأرد عليها من باب التفاعل الإيجابي والتواصل البناء.

فمما تسلمت من المادحين: “يسلم فمك... بارك الله فيك.. أحسنت الإيجاز... عبرت عن ضمائرنا...”

أقول لمن أرسل بتلك العبارات: لا بارك الله في إن كنت أقصد الإساءة لشخص بعينه، ولا سلم فمي إن كان يقصد غير تسليط الضوء على قضية غاية في الأهمية وتؤثر في مستقبل الصناعة المالية الإسلامية التي يجب النظر إليها من باب المسؤولية الجماعية لا من باب المصالح الفردية حتى وإن كان الفرد شيخاً. فالعمل الشرعي هو سر وجود الصناعة وهو جوهرها وروحها وصمام أمانها الذي إن أتيت منه تحولت عن حقيقتها لتصبح صورة ممسوخة عن الصناعات الأخرى. والمشايخ وإن أخطأوا يبقون الدرع المتين، فلا يظنن ذوو الهوى أن هواي هو التجريح بل جل ما أتمناه هو إصلاح الوضع الحالي للعمل الشرعي الفردي الذي ينتقده غير المسلم قبل المسلم العالم بأبسط أمور العمل المالي الإسلامي.

أما بالنسبة للعاتبين فقد جاءني منهم الآتي:

“هات الدليل على ما تقول... هدي اللعب شوي... لا تلعب بالنار... المشايخ مو سهلين... تجاوزت الخط الأحمر...”

أقول لهؤلاء كما قال أجدادنا العرب: “هذا أمر لا تبرك عليه الإبل” فالانتقاد الموجه للعمل الشرعي طاف على السطح منذ زمن وما يزيد منه هو استمرار الممارسات المنتقدة وغياب الدور التنظيمي للبنوك المركزية إلا في حالات استثنائية.

فتخيل معي لو أن بنكاً مركزياً أصدر قانوناً يمنع وجود الشيخ الواحد في أكثر من 4 هيئات على سبيل المثال؟ وتخيل لو أن البنك المركزي يسن قانوناً يجبر المؤسسة المالية الإسلامية على تغيير الهيئة الشرعية كل سنتين على سبيل المثال؟ أو أن القانون يجبر المشايخ على العمل المؤسسي فلا يتعاملون بشكل فردي؟ عندها ستصبح الأعمال الشرعية مهنا حقيقية مؤطرة ومقننة تحكمها ضوابط تفرض بروح القانون وليس بمعايير أخلاقية غير ملزمة ـــ مع كل احترامي وتقديري لمن هو ملتزم بها. فهناك بعض المشايخ يرفض أن يتكرر في عضوية عشرات الهيئات، ومنهم من يرفض أن يعمل بشكل فردي. ومنهم من لا يقبل أن يوضع اسمه في كتيبات تسويق المنتجات.

أما فيما يخص مقولة ابن عساكر “لحوم العلماء مسمومة”، فإني أرى أنه أصبح هناك غلو في استخدامها فأصبحت تشكل درعاً واقياً لممارسات غير مقبولة من قبل فئة أصبحت متنفذة في العمل الشرعي في الصناعة المالية الإسلامية. وهنا لا يجب إنكار المقولة وعدم العمل بموجبها ولكن الحكمة ضالة المؤمن في التعامل معها دون المساس بأشخاص بأعينهم.

ربما يسأل سائل ومن أنت حتى تصنف العالم من غير العالم؟ وهنا أقول إنني لست أنا من يصنف العلماء لكن العامة هم من يصنفونهم. فما تفسير وجود خاتم عالم معين على اكتتاب لشركة معينة يعطي هذا الاكتتاب قبولاً عاماً أكثر من وجود خواتم أخرى كثيرة... إنها سنة الله في القبول العام لمن يحبه “إن الله إذا أحب عبداً حبب خلقه فيه”، فهل تلق الفئة المتنفذة في العمل الشرعي في الصناعة المالية الإسلامية القبول العام؟ وهل يعني تكرار الشيخ على عشرات (ربما وصلت مئات في بعض الحالات) من الهيئات الشرعية أن له قبولاً عاماً؟ في الحقيقة هو قبول خاص من قبل المؤسسات المالية الإسلامية وحسب؛ وهذا بحد ذاته يشكل مخاطر شرعية لتلك المؤسسات على المدى البعيد لأنه ربما يقلل من مصداقيتها الشرعية وبالتالي المصداقية الشرعية للصناعة المالية الإسلامية ككل على المدى البعيد.

وفيما يتعلق بتقديم الدليل على صحة ما أوردته في الجزء الأول من المقالة فهو يتعلق بذكر أشخاص معينين وهذا مخالف لنهج الرسول ـــ عليه الصلاة والسلام ـــ في النقد حيث كان يقول:”ما بال أقوام” دون التطرق للأعيان. ومن جهة أخرى، فإن ما أوردت من أمور لم تعد تعتبر سراً لأن السر إن خرج عن اثنين لا يصبح سراً فما بالكم بأفعال حصلت أمام العشرات بل ربما المئات في بعض الأحيان، ما جعل منها كما قالت العرب “ما يوم حليمة بسر” >

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي