مديرو الوسط وتعزيز دورهم في المنظمات

تحدثنا في مقالنا السابق «إحراز الأهداف من أنصاف الفرص» عن عتب الإدارات العليا الواقع على الإدارات الوسطى وما دونها، وأن فقدان المبادرة للإدارات الوسطى والدنيا في تحقيق أهداف الإدارة العليا يجعل الأخيرة في وضع لا تحسد عليه. ويكون العتب الأكبر منصباً على الإدارة الوسطى أو الدنيا المنشغلة بتسيير الأعمال الروتينية لإدارتها، التي لا تمارس أي نوع من التطوير، بل تنتظر التطوير دائما أن يأتي من الأعلى.
وفي مقالنا هذا سنحاول أن ننظر للموضوع ذاته ولكن من وجهة نظر مديري الوسط ومن دونهم، حتى نتعرف على ما يطلبونه ويحتاجون إليه من قبل الإدارات العليا حتى يحققوا ما يصبو إليه القادة والرؤساء والتنفيذيون. العلاقة بين الإدارات العليا والإدارات الوسطى وما دونها هي علاقة تعاونية متبادلة، كعلاقة صانع اللعب مع المهاجم، فمهما كان صانع اللعب متمكنا ولكن لا يجد مبادرة وحسن تمركز وحسن استثمار للفرص من قبل المهاجم فلن يستفيد الفريق ككل ولن يحرز الأهداف. وبالمثل مهما كان المهاجم متميزا ويحسن التصرف ولكن صانع اللعب بعيد عن المستوى أو لا يمرر كرات صحيحة للمهاجمين ولا يوفر لهم «بيئة تهديفية حقيقية» فأيضا لن يستفيد الفريق ولن يحرز الأهداف.
مديرو الوسط ومن دونهم يحتاجون دائما وأبدا إلى الدعم والتحفيز والعرفان بجهودهم وشكرهم عليها. تبدأ مسيرة العناية بمديري الوسط ومن دونهم بنقل إحساس الأمان الوظيفي لهم، وأن مستقبلهم الوظيفي مضمون، بل إن فرص تقدمهم إلى صفوف المواجهة الأمامية متاحة وممهدة لمن يعمل بجد ولصالح المنظمة. أيضا يحتاجون إلى نقل الشعور بأهميتهم داخل المنظمة وإلى الإشادة بهم وبقيمة وجودهم على رأس إداراتهم، ويحتاجون  إلى تعزيز أهمية منصبهم على مستوى جميع الموظفين. حقيقة الأمر أنهم فعلا مهمون وأنهم «الصمغ» الذي يصل جميع أجزاء المنظمة بعضها ببعض. فالقاعدة العريضة من الموظفين يتواصلون معهم ويشكون همومهم لهم ويتفاءلون بالجيدين منهم ويتشاءمون بالسيئين منهم. كما أن القاعدة العريضة من الموظفين تبني آمالها على المديرين المباشرين فهم من يوصل صوتهم ومطالبهم إلى الإدارة العليا وهم من يستطيع أن يوضح ويشرح مطالب هؤلاء الموظفين.
التطور التقني وتطور نظم إدارة المعلومات جعل الإدارات العليا تصل إلى متابعة ومراقبة تفاصيل الأعمال والأداء والتشغيل بطريقة أسهل وأسرع من ذي قبل، فظنت بعض الإدارات العليا أنها قادرة على تقليص مساحة مديري الوسط وتقليص هامش حريتهم في إدارة إداراتهم بطريقتهم الخاصة، بل وشكلت ضغوطا عليها بحيث تنفذ ما يطلب منها وأن تخفض من صوت الاقتراحات والآراء، وبالتالي أصبح ولاء مديري الوسط ومن دونهم ضعيفا تجاه المنظمة، فرأيهم «مهمش» بل أحيانا يعاتبون على إبداء الرأي. ولذلك انصرف الكثير من مديري الوسط ومن دونهم عن الاهتمام بتطوير العمل وعن ابتكار ما تتقدم به المنظمة وما يرفع درجة رضا المستفيدين من خدماتها إلى تسيير الأعمال حسب النظام والتوجيه دون التفكير في نجاعة هذا النظام أو صحة هذا التوجيه، بل هم لا يكترثون لذلك فالمسؤولية في نظرهم ليست مسؤوليتهم وأفضل الطرق للتعامل مع هذا الوضع هو «اربط الحمار - أعزكم الله - مطرح ما يبغى صاحبه».
ذكر في كتاب (حقيقة الإدارة الوسطى) للمؤلف الدكتور باول أرسترمان، الذي نشر في عام 2008، أنه أظهرت الاستطلاعات أن الإدارة العليا تُعتبر في نظر مديري الوسط إدارات مخادعة وأنانية، بمعنى أنها تنظر إلى مصلحة ذاتها قبل مصلحة المنظمة. مثل هذا الانطباع عن الإدارة العليا لم يأت من فراغ وخاصة إذا ما كانت الممارسات من قبل القادة والرؤساء والتنفيذيين دائما تصب في عدم تقدير المبادرات والآراء والاقتراحات وعدم شكر وتحفيز الإدارة الوسطى ومن دونها. فها نحن نسمع ونرى تلبك بعض مديري وسط في منظماتنا عند طلبهم عرض اقتراح ما على الإدارة العليا، فنجدهم يقولون ويرددون «لا نريد أن نفتح على أنفسنا بابا من النقد»، هذا بالتحديد يعبر عن الخوف الذي جاء نتيجة النقد القاسي من الإدارة العليا على من يبدي رأيه وأن عقابه يكون على شكل: أن الإدارة العليا ستدقق «ستخنفس» في أعمال إدارته وبالتالي ستتصيد أخطاءه ثم تعاقبه وتوبخه، والنتيجة هو الأفضل ألا يقترح مديرو الوسط وأن يبقوا في الظل دائما.
أيضا في كثير من الأحيان يواجه مديرو الوسط الكثير من العوائق التي تحول بينهم وبين تنفيذ برامج تطويرية لإداراتهم، من هذه العوائق إجراءات العمل والنظام المعمول به، نقص الكوادر البشرية، نقص بعض الصلاحيات الإدارية والمالية، غياب الرؤيا الواضحة للمؤسسة وغيرها. ولذلك يترتب على الإدارة العليا تذليل الصعوبات والتحديات فهم أصحاب الصلاحية وبيدهم التغيير. وإن كان الأمر يتعلق بما ليس للإدارة العليا الصلاحية في البت فيه فعليهم العمل والتواصل مع من بيده الصلاحية. وعلى الإدارة العليا أن توازن بين ما هو مطلوب من مديري الوسط وما هو متاح لهم من إمكانات ودعم ونظام، وألا ترفع سقف مطالبها كثيرا، فأخشى أن يرتفع معها مديرو الوسط ثم يسقطوا شر سقطة، فتفهم حقيقة العوائق أمام مديري الوسط والعمل على تذليلها أو وضعها في حسبان الإدارة العليا لهو بيت القصيد وما يطلبه مديرو الوسط.
ولذلك يعتب بعض مديري الوسط على إداراتهم العليا بكون بعضها يضع أهدافاً للمنظمة براقة وكبيرة ولا تتناسب مع إمكانات الدعم الموجهة للإدارات المنوطة بتنفيذ هذه الأهداف، وبالتالي تستفيد الإدارة العليا من الهالة الإعلامية التي تنجذب نحوها نتيجة الأهداف السامية البراقة، فتكون مثل فقاعة الصابون كبيرة ولكن فارغة من الداخل. التوازن بين وضع أهداف كبيرة وبين مناسبتها لإمكانات المنظمة وحجم الدعم المقدم للإدارة المنفذة هو سر النجاح. فتحقيق هدف متوسط أو صغير خير من وضع هدف كبير لا يمكن تحقيقه. وهذه الرؤيا لا تعني ألا نضع أهدافا كبيرة نرتقي بمنظماتنا إلى حجمها ولكن الواقعية والتوازن مطلوبان.
ختاما: هناك آراء متباينة حول دور مديري الوسط، فمن تلك الآراء من يعتقد أن مديري الوسط هم أحد أنواع العوائق التي تحول دون تقدم المنظمة، وهناك رأي آخر يقول إن من دونهم لا يمكن للمنظمة أن تتقدم. وبين هذا وذاك يأتي الوسط والوسطية، وعلى الإدارات العليا أن تجرب وتفسح المجال لمديري الوسط لإثبات أنهم قادرون على المساهمة في تقدم المنظمة، ومن خلال هذه الفرص سيتبين للإدارة العليا المصلح من المفسد.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي