إحراز الأهداف من أنصاف الفرص

اللاعب المهاجم المتمكن نقول عنه - بلغة كرة القدم - إنه يسجل الأهداف من أنصاف الفرص! فكم نتمنى أن يكون المسؤول في أي إدارة من إداراتنا الحكومية كالمهاجم المتمكن. المسؤولون عليهم أن يكونوا منتهزين للفرص قناصين لها، لا ينتظرون الفرصة تأتي إليهم بل يسعون لها. وإذا جاءت الفرصة فلا مجال لهدرها والتسويف وكثرة المراوغة، بل ينصب الفكر إلى المبادرة وإحراز الهدف. في الغالب تتمتع الإدارات العليا بالنظرة الاستراتيجية فهم كـ «صانع اللعب في فريق كرة القدم»، لديه النظرة الواسعة لكشف كامل الملعب وبمهاراته الشخصية يمرر كرات ذهبية للمهاجم، وعلى المهاجم المتمكن أن يستثمرها ويحرز الهدف عن طريق خطواته المدروسة ومبادرته بالتهديف. وعلى أساس هذه المقاربة تكون الإدارة العليا هي «صانع اللعب» والإدارات الوسطى والدنيا هم «المهاجمين». فعلى الإدارات الوسطى والدنيا أن تعمل على ترجمة مرئيات وتوصيات وتوجهات الإدارة العليا وتحويلها إلى برامج وخطوات مدروسة لتحقيقها، فتفعيل آليات التنفيذ يكون من مسؤولياتها.
الإدارات الوسطى والدنيا هم مجاديف الإدارة العليا، والمنفذون لخططها والملتزمون برؤيتها ورسالتها. ولذلك تترك الإدارة العليا عبء ترجمة الأفكار الساعية إلى تنمية العمل وتطوير إجراءاته للإدارات الوسطى والدنيا، وتكتفي هي بالدعم ورسم المستقبل وتوفير التمويل وصنع القرارات الاستراتيجية. وكما هو معلوم أن الإدارة العليا تتكون من عدد أقل من عدد موظفي الإدارة الوسطى، والإدارة الوسطى تتكون من عدد أقل من عدد موظفي الإدارة الدنيا وهكذا، ومن هنا جاء شكل الهرم الإداري. وبالتالي القادة والرؤساء والتنفيذيون هم قلة في العدد في أي منظمة على عكس مديري الوسط ومن دونهم. وهذه الحقيقة تصل بنا إلى حقيقة أخرى وهي أن القادة والرؤساء والتنفيذيون لا يمكن لهم أن يقوموا بإتمام تفاصيل كامل البرامج التنموية والتطويرية بأنفسهم (ولذلك نسمع الكثير منهم يرددون «أتريدون مني أن أفعل كل شيء!!»). فهم ينتظرون دائما مدَّ يد العون والمبادرة والمساهمة في تنمية وتطوير المنظمة من قبل مديري الوسط ومن دونهم من رؤساء أقسام وغيرهم. بل ينحصر دورهم الاستراتيجي في تقديم فرص حقيقية للتطوير وأحيانا يقدمون أنصاف الفرص بل قد يصل الأمر إلى تلميحات غير مكتملة وغير مبلورة تبحث عمن يبلورها ويكملها ويجعلها فرصة حقيقية للتقدم.
دائما ما يجب أن تراهن الإدارة العليا على الإدارة الوسطى ومن دونها فهم شعلة نشاط المنظمة والمنفذون الأساسيون لرؤيتها ورسالتها وأهدافها، وهم الوسط الذي يربط أجزاء المنظمة بعضها ببعض، ولا يصح الرهان على ذات الإدارة العليا فـ(لا يكلف الله نفسا إلا وسعها). ولذلك نجد الإدارات العليا الناجحة تسعى بشكل دؤوب إلى تحفيز الإدارات الوسطى والدنيا على المشاركة في مسيرة التقدم للمنظمة. كما نلاحظ عتبها على الإدارات الوسطى أو الدنيا التي لا تبادر ولا تسهم في طرح أفكار لحل بعض إشكالاتها أو عدم محاولتها ترجمة رؤيتها إلى برامج واقعية مكتملة تعرض عليها لأخذ ملاحظاتها ثم مباركتها واعتمادها. يكون العتب الأكبر منصباً على الإدارة الوسطى أو الدنيا المنشغلة بتسيير الأعمال الروتينية لإدارتها، التي لا تمارس أي نوع من التطوير، بل تنتظر التطوير دائما بأن يأتي من الأعلى.هذا النوع من الإدارات المتكلة على جهد الإدارة العليا غالبا ما توصف بكثرة الانتقاد السلبي لقرارات الإدارة العليا ومنهجها في تطوير المنظمة، وفي الوقت نفسه هي ضعيفة الأداء بشكل عام.
أكاد أجزم أن الأغلب منا يعرف على الأقل إدارة متميزة داخل المؤسسة التي يعمل فيها، ويقول عنها إن مديرها جريء ويتحمل المسؤولية ويغتنم الفرص و»واصل»، وحقيقة الأمر أنه مبادر وفاعل. كما أننا نعرف على الأقل إدارة بطيئة التقدم أو متعثرة، ونقول إن مديرها «لا يهش ولا ينش»، وحقيقة الأمر أنه متواكل على جهد الإدارة العليا ويفعل فقط ما يطلب منه وليس لديه حس المبادرة والإقدام وتحمل المسؤولية.
فقدان المبادرة للإدارات الوسطى والدنيا في تحقيق أهداف الإدارة العليا يجعل الأخيرة في وضع لا تحسد عليه، حيث إن المنفذين دائما ينتظرون فرصة «مقشرة» جاهزة ولا يريدون أن يبدلوا أي جهد في استثمار أنصاف الفرص وتحويلها إلى فرص حقيقية للتطوير. وبالتالي يكون المطلوب من الإدارة العليا ألا تكتفي بالتوجيه والمتابعة ورسم المستقبل وصنع القرارات المصيرية للمنظمة، بل عليها أن تتدخل في تفاصيل تطوير أعمال الإدارات الوسطى والدنيا، وأن تتعامل مع هذه الإدارات كمن لا يرجى منه خير اتجاه المبادرة والتطوير. وبالتالي يكون العمل على هذه الشاكلة هو أمر مستحيل، ولن يصل بالمنظمة إلى أي موقع متقدم، بل إن مآلها آجلا أم عاجلا إلى الهاوية، وعند السؤال حينها عن إخفاق هذه المنظمة يكون الجواب من قبل الإدارة العليا «قال انفخ يا شريم قال ما من برطم».
في الختام على اللاعب الذي يرغب في إحراز الأهداف أن يساند صانع اللعب، وأن يتحرر من قيود الخصم المفروضة عليه، وأن يتمركز بشكل جيد لاقتناص أي فرصة، وأن يفتح مجالات وحلول لصانع اللعب، وأن يتراجع إلى الخطوط الدفاعية «أحيانا» ليتسلم المبادرة ويتجه نحو الهجوم، وعليه أن يحسن استثمار تمويل صانع اللعب، وأن يحول أنصاف الفرص إلى فرص حقيقية تحرز من خلالها الأهداف.
في مقال قادم ــ إن شاء الله ــ سنتعرض «للعكس» عتب الإدارات الوسطى والدنيا على الإدارة العليا.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي