عمر النفط مرهون بالطلب عليه لا بنضوبه
يرى البعض أن الطلب العالمي على النفط سيستمر مهما كان سعر النفط، لذلك يطالبون بتخفيض إنتاج النفط بحجة الحفاظ عليه لأجيال المستقبل. الحديث في هذا المجال يطول، لذلك فإن التركيز في هذا المقال سيكون على سرد بعض الحقائق التي تثبت أن تخفيض الإنتاج، بحجة مصالح الأجيال القادمة، ورفع أسعار النفط إلى مستويات عالية سيخفض الطلب على النفط، وأن عمر النفط مرهون بالطلب عليه، لا بنضوبه. والمقصود بالأسعار العالية هنا هي الأسعار التي تجبر المستهلك على تغيير سلوكه مثل اللجوء إلى المواصلات العامة بدلا من ركوب السيارة الخاصة، واستبدال السيارات الصغيرة بالسيارات الكبيرة، واستبدال السيارات التي تسير بالطاقة الكهربائية أو بالوقود الحيوي أو السيارات الهجينة بالسيارات التي تسير بالبنزين والديزل. وهذا ما حصل في بداية الثمانينيات، الأمر الذي خفض إيرادات دول ''أوبك'' الحقيقية إلى أقل من الخمس من 450 مليار دولار (بدولارات 1990) إلى 85 مليار دولار عام 1985!
ولا بد من التذكير هنا بأن الطلب على النفط لن ينتهي، وسيبقى النفط مستخدماً لعقود قادمة حتى بناء على أكثر التوقعات تشاؤما لاحتياطيات النفط، ولن يتم الاستغناء عنه. الحديث هنا عن انخفاض الطلب على النفط وليس إلغاءه، مع الأخذ في الاعتبار أن ما يهدد مستقبل النفط في الخليج ليس نضوب النفط، لكن انخفاض الطلب عليه. وما أدراك ما انخفاض الطلب على النفط! فالانخفاض كاف لتحطيم دول واقتصادات كاملة، وما علينا إلا العودة إلى منتصف الثمانينيات لنعرف مقدار مأساة دول الخليج من انخفاض أسعار النفط في ذلك الوقت (ويذهب البعض إلى القول إن هذا الانخفاض أسهم في انهيار الاتحاد السوفياتي).
حقائق تاريخية حول الطلب على النفط
1- في الولايات المتحدة، أكبر مستهلك للنفط في العالم، انخفضت حصة النفط في إجمالي الطاقة المستهلكة من 45 في المائة في عام 1974 إلى أقل من 36 في المائة حالياً. وانخفضت نسبة استهلاك النفط في المنازل من 17.5 في المائة إلى نحو 5 في المائة حاليا. وانخفضت نسبة استهلاك النفط في قطاع الكهرباء خلال الفترة نفسها من 17 في المائة إلى أقل من 3 في المائة. وانخفضت نسبة استهلاكه في القطاع التجاري من 15 في المائة إلى 4 في المائة. أما استهلاكه في القطاعين الصناعي والمواصلات فبقي ثابتا تقريبا طوال هذه الفترة، لكن لوحظ أخيرا بدء الانخفاض في قطاع المواصلات بسبب استخدام الوقود الحيوي وتحويل الشركات الكبيرة سياراتها لتعمل بالغاز الطبيعي المضغوط.
2- تشير البيانات إلى انخفاض عدد الأميال التي يسافرها الأمريكيون منذ عام 2007 عندما وصلت أسعار البنزين إلى نحو أربعة دولارات للجالون. هذا يعني أن المستهلك الأمريكي بدأ يغير سلوكه نتيجة ارتفاع الأسعار، قبل الأزمة المالية بنحو سنة تقريبا. وتشير التحليلات الإحصائية إلى أن ملايين المستهلكين الأمريكيين سيغيّرون سلوكهم وسيخفضون استهلاكهم للبنزين بشكل كبير إذا تجاوزت أسعار البنزين 4.23 دولار للجالون. لكن ذلك كان قبل الأزمة المالية والكساد الذي تلاها. أما بعد الأزمة فإن التحليلات الإحصائية نفسها تشير إلى أن المستهلك الأمريكي سيبدأ بتغيير سلوكه إذا وصلت أسعار البنزين إلى نحو ثلاثة دولارات للجالون، وذلك بسبب البطالة وانخفاض الدخول. هذا يعني أن أي أسعار للنفط فوق 90 دولارا حاليا ستؤدي إلى انخفاض الطلب الأمريكي على النفط.
3- في منتصف السبعينيات، توقعت الهيئات المختلفة أن يتجاوز الطلب على النفط 90 مليون برميل يوميا في بداية التسعينيات. الآن، وبعد مرور نحو 20 عاما على بداية التسعينيات، ما زال الطلب نحو 87 مليون برميل يوميا.
4- توقعت وزارة الطاقة الأمريكية في عام 2004 أن يصل استهلاك النفط في الولايات المتحدة إلى 28 مليون برميل بحلول عام 2025. في توقعاتها الأخيرة التي صدرت حديثا، تتوقع الوزارة أن يكون الطلب على النفط في عام 2025 أقل من ذلك بكثير: 21 مليون برميل يومياً!
5- في عام 1998 توقعت وكالة الطاقة الدولية، وهي هنا تستخدم كمثال, حيث إن توقعاتها تشابه توقعات ''أوبك'' ووزارة الطاقة الأمريكية، أن يصل استهلاك النفط في العالم عام 2010 إلى 94.2 مليون برميل يوميا. ها نحن الآن في عام 2010 ولم يتجاوز استهلاك النفط 87 مليون برميل.
6- في عام 1998 توقعت وكالة الطاقة الدولية أن يصل استهلاك النفط العالمي إلى 111 مليون برميل يوميا عام 2020. في توقعاتها الأخيرة، تشير تقارير الوكالة نفسها في العام الماضي إلى أن الطلب سيرتفع إلى 105 ملايين برميل يوميا فقط، لكن ذلك سيكون بحلول عام 2030!
لقد أدى ارتفاع الأسعار إلى انخفاض الطلب، كما أدى إلى تخفيض توقعات الطلب على النفط. إن أي ارتفاع كبير في الأسعار سيعزز هذا الاتجاه وسيخفض الطلب على النفط، الأمر الذي سيخفض أسعار النفط بشكل كبير. ما فائدة الاحتفاظ بالنفط للأجيال القادمة إذا كان الطلب سينخفض؟
إن دول النفط جزء من المجتمع الدولي ومصالحها الاقتصادية والسياسية مرتبطة بهذا المجتمع ولا يمكن الانعزال عنه. لذلك فإن السياسة النفطية المثلى تتمثل في وجود طاقة إنتاجية فائضة واستخدامها وقت الحاجة لمنع أسعار النفط من الارتفاع بشكل كبير. هذا يعني أن هذه الدول قد تضطر أحيانا إلى إنتاج كميات تفوق احتياجاتها المالية. كل الأدلة التاريخية تشير إلى أن الطلب على النفط سينخفض إذا ارتفعت أسعار النفط فوق حد معين، وكل الأدلة التاريخية تشير إلى أن انخفاض الطلب على النفط كاف لإحداث أزمات اقتصادية وسياسية كبيرة في الدول النفطية. وكما هي الحال في كل الأمور الأخرى، النجاح مرتبط بـ ''الوسطية'' و''الاعتدال'' وليس ''التطرف''. وفي هذا السياق لا بد من الاعتراف بأن التطرف في بعض السياسات الحكومية وجنوح بعض المسؤولين في بعض الدول النفطية والفساد الإداري قد تؤدي أحيانا إلى ردود فعل متطرفة من بعض الكتاب والإعلاميين، الذي ينتج عنه طرح أفكار متطرفة بشأن السياسة النفطية.
خلاصة القول: الاحتفاظ بالنفط للأجيال القادمة يتطلب الحفاظ على الطلب عليه، وهذا يتطلب وجود طاقة إنتاجية فائضة وزيادة الإنتاج أحياناً. زيادة الإنتاج في هذه الحالة ليست من أجل ''عيون'' الأوروبيين والأمريكيين، لكن من أجل ''عيون'' الأجيال القادمة في الدول المنتجة. إطالة عمر النفط تعني تبني السياسات التي تضمن استمرار الطلب على النفط. مرة أخرى، عمر النفط مرهون بالطلب عليه، لا بنضوبه.
* المقال يعبر عن رأي الكاتب فقط ولا يعبر بالضرورة عن رأي الشركة التي يعمل فيها.