التعصب في كرة القدم (1 من 2)

في البداية يجب أن نقف عند كلمة (تعصّب), ففي الأصل تعني التجمّع والانضواء تحت عُصبة معينة, والعُصبة في اللغة هم الجماعة ما بين العشرة والأربعين, لكن بحكم أن هذا التجمع والانتماء في الغالب لا ينتج عنه سوى نتائج وخيمة ـ مثل التعصب الرياضي والتعصب القبلي, تطورت هذه المفردة بمرور الوقت ليصبح معناها الانتماء البغيض, الذي يصل دائما إلى درجة التمادي ورفض الحق ورفض كل من هو خارج هذه العصبة, وله مساوئ كثيرة جدا، قد تتسبب في كثير من المشكلات, وما تنتج عنه من إفرازات وآثار سلبية تثير الفتن والتسيب الأخلاقي والانفراط في التعبير عن المشاعر بطريقة محزنة.

ومن نتائج دراسات علم النفس الرياضي في تعريف التعصب الكروي والسمات الشخصية للمتعصب، أن التعصب Fanaticism هو حكم مسبق مع أو ضد جماعة أو موضوع, وقد لا يقوم على أساس منطقي أو حقيقة علمية, ويجعل الفرد يرى أو يسمع ما يجب أن يراه ويسمعه, ولا يرى ولا يسمع ما لا يجب رؤيته أو سماعه.
والتعصب في الرياضة مرض الكراهية العمياء للمنافس, وفي الوقت نفسه مرض الحب الأعمى, فيعمي البصيرة حتى أن الحقائق الدامغة تعجز عن زلزلة ما يتمسك به المتعصب فردا أو جماعة.
حتى نستطيع أن نفهم كيف ينتج التعصب الرياضي، لا بد أن نبدأ بالتساؤل عن سر هذا التعلّق اللامعقول بالرياضة؟ ما الذي تفعله كرة القدم لتسحر الناس هكذا؟ كيف يُخلق هذا الرابط المقدس الذي يربط الجمهور بمصير الفريق إلى درجة لا تكاد تصدق؟
يبدو أن التعصب الرياضي أصبح سمةً لكثير من متابعي كرة القدم؛ لأنها تحظى بالاهتمام الأكثر على مستوى الرياضات جميعها دون منازع, فلا يمر يوم أو تطبع صحيفة يخلو أو تخلو من تصريحات نارية تشير بشكل أو بآخر إلى حالة مرضية لا تعني الانتماء بالتأكيد بقدر ما تشير إلى أن العقلية الرياضية ما زالت (أسيرة) لنمط غريب من الحب زادت في حدة ذلك مدرجات الكرة وما تحفل بها من شخصيات أشبه بشخصيات المهرجين في طريقة تعبيرها عن انتمائها لنادٍ أو إلى آخر. اتهامات توزّع في حالات الفوز أو الخسارة، وفي حالات وجود (منافس) يتحول إلى ضدٍ، وإلى ضدٍ كريه أحيانا بالنسبة إلى طرف آخر. أشكال من الممارسات الكلامية والجسدية والانفعالات التي تنعكس في شواهد كثيرة على الثقافة وعلى المجتمع، يساعدها على ذلك (متعصبون) قدماء بأبوة منقطعة النظير في إدارة الجماهير.
التعصب في كرة القدم هذا الداء الفتاك الذي وصل بضعاف العقول إلى أن ينعكس على تعاملهم مع زملائهم ومع أهلهم ووصول مشاحنات وعداوات قد تمتد إلى المشاكسات والتكسير. وهو ظاهرة خطيرة تحتاج إلى تكاتف وتعاون الجميع يشترك فيها الجميع بكل فئاتهم المختلفة وعلى أعلى المستويات.
فيجب أن تسهم الجهات الرسمية والقنوات الإعلامية المحلية من أجهزة مرئية أو مسموعة أو مقروءة والإداريون واللاعبون والجماهير وجهات أخرى كثيرة ذات صلة في هذا الأمر, بحيث يكون هناك نبذ للتعصب, خاصة في جانب الصحف، التي تجسد هذه الظاهرة وأصبح سمة أزلية ملازمة للمجتمعات الرياضية, بل أيضا في غير الرياضية وله أشكال مختلفة تتخلق وفق الظروف والأحوال.
ولا بد أن نستعرض بعض أسباب هذا التعصب ويمكن أن نقسمها إلى فئات كل يقوم بدور مختلف, لكن في النهاية تصبح النتيجة واحدة، هي تعصب أعمى وأطرش وأبكم يعمي القلوب والعيون على حد السواء.

الآثار السالبة التي تنتج عن التعصب

الآثار الصحية
إن مشاهدة مباريات كرة القدم وسيلة ماتعة للترفيه والترويح, الآثار الصحية لمشاهدة ومتابعة مباريات كرة القدم بحماس وانفعال يبدأ من معاناة القولون العصبي وإزعاجاته والقولون العصبي أو تقلص القولون هو حالة من الألم أو الضيق بالبطن وشعور بالامتلاء والانتفاخ واضطراب وظيفة الإخراج من دون سبب أو مرض عضوي واضح.
وهو من أكثر أمراض الجهاز الهضمي شيوعا، وأسباب الإصابة به وإزعاجاته تأتي من التوتر المستمر والقلق الدائم والانفعال المتكرر, وتؤدي إلى خطورة الإصابة بالذبحة الصدرية والنوبات القلبية والسكتة الدماغية.
ومع الجو المشحون بالحماس والاهتمام والانفعال لنتائج هذه المباريات يصاب بعض المشجعين بصدمات شديدة وأزمات نفسية قاسية، سواء كانوا يشاهدون المباريات في الملاعب أو أمام شاشات التلفزيون, خصوصا إذا كانت ظروف المباريات التي يشاهدونها تنعكس على مواقف فرقهم في بطولة ما أو هبوط من درجة إلى أخرى. ومشاهدة المباريات بالتركيز الشديد والانفعال والمتابعة الدقيقة بتوتر تؤدي إلى تغيرات مهمة وخطيرة في جسم الإنسان, فيزداد إفراز هرمونات التوتر ويعتصر قلبه المجروح بالخسارة ألما يخنقه ويكاد يقضي على حياته، مشهد محزن يتكرر في كثير من المباريات المهمة والحساسة, وأكثر الحالات التي حدثت عقب خروج من بطولة فمن الممكن أن يصاب بنوبة قلبية, ولدينا أمثلة كثيرة في عالمنا العربي وفي العالم أجمع. وما أشد الأزمات التي تعقب ضياع البطولة فهرمون التوتر المفرز بغزارة يؤدي إلى سرعة ضربات القلب وزيادة قابلية الدم للتجلط داخل الشرايين.
مشهد تراجيدي يتكرر لبعض مشجعي بعض الأندية في مدرجات ملاعب كرة القدم وأمام شاشات التلفزيون نتيجة لأن الأمور لم تجر كما يشتهون.

الآثار النفسية
وإذا كانت هنالك آثار صحية كثيرة, فهنالك أيضا آثار نفسية تترتب على عدم السيطرة على المشاعر والانقياد بعشوائية في تعصب أعمى, فمثلا إن كانت الصدمة شديدة والخسارة فادحة وتتمثل في الخروج من بطولة أو هزيمة ثقيلة وتتحطم الآمال وتنكسر نفوس وتجرح قلوب فيصاب الشخص المتعصب بإحباط شديد ربما يؤدي به إلى فقدان التوازن العصبي فيصاب بانهيار عصبي أو ربما يصاب بالانكسار النفسي ويتملكه الإحساس بالذل فترتفع درجة حرارة الإحباط وتؤدي به إلى ما لا تحمد عقباه.

الآثار الاجتماعية
للتعصب الرياضي، هذا الداء الفتاك الذي وصل بضعاف العقول إلى أن ينعكس على تعاملهم مع زملائهم ومع أهلهم ووصول مشاحنات وعداوات قد تمتد إلى المشاكسات وانفلات في الأعصاب يخرج الناس من طورهم, وفي هذه اللحظات يعمل الشيطان عمله فترتفع الأصوات وتمتد الأيادي ونخسر أنفسنا وقيمنا ومبادئ ديننا دون أن نشعر.
كما أنها أفسدت عددا من البيوت باختلاف ميول الزوجين، سواء على المستوى المحلي أو العربي وأفسدت روح المودة والمحبة بين بعض من أفراد المجتمع الرياضي.
ولدينا أمثلة كثيرة من داخل الوطن العربي ومن خارجه, دعونا نستعرض بعضا منها لتظهر لنا بوضوح الصورة البشعة للتعصب الرياضي والنتائج المؤسفة والمحزنة التي تؤول إليها تصرفات المتعصبين لأنديتهم ولاعبيهم, ففي عام 1964 وفي تصفيات أمريكا الجنوبية المؤهلة لأولمبياد طوكيو، التقى منتخبا الأرجنتين والبيرو، أُقيمت المباراة في العاصمة البيروفية ليما بحضورٍ جماهيري كثيف تقدم المنتخب الأرجنتيني في البداية بهدف واستطاع المحافظة على هذا التقدم، لكن قبل نهاية المباراة بدقيقتين تمكن منتخب البيروفي من تسجيل هدف التعادل، وكان من الممكن أن تنتهي المباراة نهاية طبيعية لولا أن الحكم ألغى الهدف, وتسبب ذلك في حدوث هيجان وثوران بين الجماهير تطور لواحدة من أسوأ حالات شغب الملاعب في التاريخ، كانت نتيجة هذا الشغب مقتل نحو 300 مشجع.
في بعض الحالات وصل التعصب إلى القتل العمد المباشر، كما في حادثة مقتل المدافع الكولومبي أندرياس إسكوبار (بسبب تسجيله بالخطأ هدفا في مرمى منتخب بلاده) وحرمانه بذلك من التأهل لدور الـ16 في نهائيات كأس العالم 94. وفي حالات أخرى وصل التعصب الرياضي إلى درجة ممارسة السحر بشكل علني، كما في الحادثة التي أشعلت فيها ساحرة (فتيشا) في المدرجات في مباراة أقيمت في الكون وعام 2008، ما أدى إلى تدافع الجماهير ومقتل 13 مشجعا.
هذه الحوادث، على جسامتها، تعتبر تهريج أطفال إذا ما قورنت بالأحداث التي تلت المباراة الفاصلة بين السلفادور والهندوراس في تصفيات كأس العالم 1970، تسببت أحداث تلك المباراة في تصاعد حدة التعصب الرياضي بين جماهير المنتخبين إلى درجة أن اندلعت الحرب بين الدولتين بعد المباراة مباشرة ولمدة أربعة أيام متواصلة ووصل عدد القتلى في هذه المهزلة إلى ما يقارب ثلاثة آلاف. تصوروا معي هذا الرقم الخيالي.. ولا تزال هذه الحادثة هي الأبشع حتى إنها سميت (حرب كرة القدم).
رغم أن هذه الأحداث المؤسفة مرتبطة ارتباطا وثيقا بالتعصب الرياضي، لكن في الحقيقة أننا يجب أن ننظر إلى الجوانب الإيجابية المشرقة في عملية التعصب, فهي طاقة كامنة وقوة كبيرة في أعماق الجماهير نستطيع أن نخلق منها أداة لدعم الأندية التي تنتمي إليها هذه الجماهير.
ومشاهدة كرة القدم وسيلة ماتعة نروّح فيها عن النفس ونستمتع فيها كل الفنون الجميلة، وفي العدد المقبل نستعرض الأسباب التي تدفع إلى التعصب وكيفية معالجتها.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي