الثقـافة والإبـــداع من أجل التنمية!

الاجتماع التحضيري كان أقرب إلى مهرجان ثقافي أو مؤتمر بحثي بكل ما تعني هذه الكلمة من معنى، فقد ناقش قضايا الإبداع والملكية الفكرية وموضوع اللغة العربية والترجمة وحرية البحث العلمي والتنوّع الثقافي وغير ذلك، وانقسم المجتمعون إلى لجان ناقشت القضايا المطروحة على جدول العمل، لصياغة توصيات يمكن تقديمها إلى الملوك والرؤساء العرب في القمة العربية المقبلة، فضلاً عن القمة الثقافية المرتقبة.
ولعل انعقاد مثل هذا الاجتماع ـ في حد ذاته ـ يعني الاعتراف بدور الثقافة كحامل للتغيير ورافعة أساسية لا غنى عنها للتنمية، بل إنها القدم الثانية التي يمكن أن تسير بواسطتها عملية التغيير، إضافة إلى التنمية. كما أنه يطرح إشكاليات الثقافة في مجتمعاتنا، فضلاً عن علاقة المثقف بالسلطة، أو علاقة السياسي بالثقافي، وإذا ما أخذنا في الاعتبار أن الثقافة العربية بشكل عام، وفي كل بلد عربي بشكل خاص تعاني أزمة عميقة وصعوبات جوهرية، فهل سيكون عقد قمة ثقافية أو تنظيم مهرجانات ثقافية كافياً لمواجهة التحديات الكبيرة التي تعترض طريقها؟
جدير بالذكر أن الثقافة رغم أهميتها وحيويتها وكونها إحدى أبرز أدوات التغيير والتنمية لم تكن طوال السنوات الـ 65 الماضية ضمن أجندة جامعة الدول العربية وأي من الحكومات العربية، ناهيكم عن أي من البرامج السياسية بما فيها لقوى معارضة، في حين يصعب الحديث عن تحوّلات سياسية واجتماعية واقتصادية دون توافر العامل الثقافي الذي يشكّل المادة الصحافية الضرورية لوضع التغيير والتنمية في سياقات منسجمة ومتوائمة.
تأسست جامعة الدول العربية في 21 آذار (مارس) عام 1945 وعقدت منذ قمة أنشاص في مصر عام 1946 حتى قمة سرت في آذار (مارس) الماضي عديدا من القمم العادية والاستثنائية، ابتداءً من عام 1946 ولغاية عام 2010، لكن الثقافة لم تكن في يوم من الأيام في وارد القمم العربية، خصوصاً الانشغال بالمشكلات والهموم السياسية الكبرى، ابتداء من احتلال فلسطين ومروراً بغزو الكويت وصولاً إلى غزو العراق واحتلاله، إضافة إلى قضايا تتعلق بالنزاعات الحدودية والمشكلات الإقليمية والعلاقات العربية ـ العربية، وقد تكون قمة الكويت الاقتصادية التي انعقدت في مطلع عام 2009 الاستثناء الوحيد، رغم ما رافقتها من إشكالات تتعلق بالعدوان الإسرائيلي على غزة، واستعجال أو انتظار عقد قمة طارئة في الدوحة، أو استخدام قرارات القمة الاقتصادية لدعم صمود غزة في مواجهة العدوان والحصار الإسرائيليين.
ومع أن القمة الثقافية تأخّرت ستة عقود ونصف العقد من الزمان، إلا أن مجرد قبول فكرة عقد قمة للثقافة العربية من جانب الملوك والرؤساء العرب يعني قبولا جديدا لدور المثقف شريكاً في صنع القرار الثقافي على أقل تقدير إن لم يكن شريكاً ومساهماً في صنع القرار السياسي، ولعل في جزء من ذلك يعود على المثقف أيضاً، رغم سنوات العزل والتهميش وشحّ الحريات، إذْ لا بدّ من تجاوز بعض دعوات الاعتزال بحجة اللاجدوى، الأمر الذي سيطرح على بساط البحث أيضاً أوضاع المثقفين المادية والمعنوية وحقوق الإبداع والضمانات الاجتماعية، خصوصاً في ظل تجارب مريرة شهدت تغوّل السلطات على الثقافة واحتكارها القرار السياسي، بما فيه ما يتعلق بشؤون الثقافة، الأمر الذي جعل المثقفين بين حيص وبيص، فإما أن يحرقوا البخور للحاكم ويؤدلجوا سياساته ويبرروا تصرفاته، أو يتخذوا مواقف معارضة، تنتهي بقسم منهم إلى الإقصاء والإلغاء، وأحياناً الملاحقة والسجن، إن لم يكن التحريم والتجريم أو حتى كاتم الصوت.
وإلى الآن لم يجد المثقف فرصة حقيقية للمصالحة بينه وبين الحاكم أو السياسي، إلا باستثناءات محدودة، فالحاكم أو السياسي يريد توظيفه ويطالبه بالخضوع والإذعان والتنازل، وقد يغدق عليه، في حين هو يريد التشبث بوسيلته الإبداعية، حتى إن تحمّل ما لا طاقة له أحياناً، وفي كلتا الحالتين نكون قد خسرنا المثقف وخسر هو نفسه، كما خسر المجتمع والإبداع معاً.
إن سلطة المثقف هي معرفته، والمعرفة حسب تعبير الفيلسوف البريطاني فرانسيس بيكون هي سلطة أو قوة، المعرفة تنتج ثقافة وهذه لا ينبغي تطويعها لخدمة أحد، لأنه سيخسر نفسه وستخسره الثقافة.
ولعل الثقافة دون استراتيجيات واضحة وسياسات محدودة ستكون مثقلة بكثير من الإملاءات السياسية، ولا سيما أن السياسي ينظر إلى الثقافة باعتبارها حاجة كمالية أو ترفاً فكرياً أو وسيلة للترفيه، فهي حسب الصديق محمد بن عيسى أمين عام منتدى أصيلة وزير الثقافة المغربي السابق، مثل الاقتصاد والتعليم والتربية وغيرها من المرافق الحيوية، ويقتبس فقرة مهمة يستدّل بها على دور الثقافة من التقرير العربي الثاني للتنمية الثقافية العربية، الذي صدر عن مؤسسة الفكر العربي الثاني للتنمية الثقافية العربية، في عام 2009، وذلك في محاضرة له في عمان- مؤسسة عبد الحميد شومان نيسان (أبريل) 2010 فيقول: إن تجربة الاتحاد الأوروبي الذي سعى إلى تشكيل تكتل اقتصادي وسياسي، وفيما بعد أمني (عسكري) إلاّ أنه تمحور لاحقاً حول الثقافة، لأنه أدرك أنه من دون الحاصل الثقافي لا يمكن تحقيق التنمية الشاملة والمستدامة بمعناها الاجتماعي والاقتصادي والسياسي.
يقول جان موتيه الذي يلقّب بأنه ''أبو أوروبا'' كونه المنظّر لفكرة الاتحاد الأوروبي إنه: لو قدّر لي أن أطلق مسيرة التكامل الأوروبي من جديد، لتعيّن عليّ البدء بالتعليم والثقافة. وأظنه محقاً في ذلك لأنه من دون الرافعة الثقافية التي هي عمود أساس لا يمكن إنجاز التحول التنموي.
وإذا كانت الثقافة تكتسب هذه المكانة الرفيعة وتحظى باحترام المجتمعات المتقدمة التي تدرك أنه لا يمكن تحقيق تنمية شاملة دونها، فإنها في الوقت نفسه تغتني بالديمقراطية والحريات، الأمر الذي جعل هذا التلازم عصب الحياة في المجتمعات الحديثة المتطورة، ومسألة لا غنى عنها لتقدم تلك المجتمعات، ولا سيما في وجود مجتمع مدني حر ومستقل واع يستطيع أن يسهم في عملية التنمية، واتسع دوره خصوصاً في ظل العولمة بكل أوجهها المتوحشة منها، ناهيكم عن وجهها الثقافي والحقوقي والمعرفي الذي يمكن الاستفادة منه كواقع موضوعي. ما زال الاتصال بين المثقفين العرب ضعيفاً ومحدوداً, وما زال الكتاب العربي يعبر كثيرا من الألغام للوصول إلى القارئ, ولا تزال الحدود عائقاً أمام التواصل والانتقال، فضلاً عن شح حرية التعبير بشكل خاص والحريات بشكل عام، حتى الاتحادات النقابية للكتاب والأدباء وعموم المثقفين جرى تسييس كثير من إداراتها، بل إن بعضها أعطي أدواراً أيديولوجية مهمتها نشر عقائد بعض الأحزاب أو الترويج لبعض السلطات، الأمر الذي أضعفها إلى حدود كبيرة، فضلاً عن الأوضاع المعيشية السيئة التي يعيشها معظم المثقفين في ظل غياب رعاية لازمة لهم ولإبداعهم. وانكفأ كثير من المثقفين، ولاذ بعضهم بالصمت أو اضطر إلى الرضوخ أو اختار المنفى.
بقي هناك بعض المهرجانات الثقافية العربية'' المعمّرة'' كجزء من التواصل الثقافي، ولا سيما مهرجان أصيلة في المغرب الذي تأسس عام 1978 ومهرجان الجنادرية الذي احتفل في دورته الأخيرة بالذكرى الـ 25 على انطلاقته في المملكة. ورغم أن المهرجان في حد ذاته لا يصنع ثقافة, وليس بإمكانه أن يكون بديلاً عن الفعل الثقافي، إلاّ أن المهرجانات وسيلة للتواصل بين المثقفين، خصوصاً بشأن القيم المشتركة، ولا سيما للإبداع، كما أنه وسيلة للتعريف من خلال الحوار وتبادل الرأي والمنتج الثقافي، سواء في إطار الاختلاف أو الائتلاف.
ولعل موضوع مهرجانات الثقافة العربية ذو شجون، خصوصاً أنه يثير إشكالات وأسئلة عديدة, بعضها قديم وبعضها تراكم مع الخبرة وأخذ يطرح تحدّيات جديدة، متوالدة إذا جاز التعبير، ولاسيما أن بعض صورها تتكرر أو تتشابه أو تتقارب، ناهيكم عن تداخلها وتفاعلها في عديد من البلدان العربية، ولدى عديد من المثقفين العرب. والسؤال دائماً يواجه الباحث: ما الذي قدّمته وتقدّمه المهرجانات الثقافية العربية للإبداع والثقافة، ولا سيما لجهة المتعاطين معها وهم أولاً الجهات المنظمة، سواء كانت حكومة أو جهة ثقافية رسمية أو حتى شبه رسمية، أي ما الذي تريده هذه الجهات من تنظيم مهرجانات ثقافية؟ وإضافة إلى الجهات المنظمة هناك المثقفون، المنتجون فما الذي يريدونه من المشاركة، إضافة إلى التعريف والحوار، ونشر نتاجاتهم وإتاحة الفرص أمامهم للقاء مع الجمهور والتفاعل معه؟ أما المستهلكون وأعني بهم الفئة المتلقية، سواء من الوسط الثقافي ذاته أو من أوساط أخرى، لكنها تتذوق الثقافة وتحرص على الاستفادة من المهرجانات الثقافية للتعرّف على المثقفين والمبدعين وجهاً لوجه والاستماع إليهم والاطلاع على أعمالهم ونتاجاتهم.
وإذا كانت هذه إشكالية أولى تواجه المهرجانات الثقافية العربية، بما فيها مهرجان المربد الذي كان ريادياً، لكنه بسبب تدهور الوضع السياسي في العراق والدخول في حروب ومغامرات، ناهيكم عن بعض أساليب الدعاية غير المقبولة، تراجع كثيراً وانقطع في أواخر سنوات الحصار الدولي الجائر، وبقي اسماً بلا عنوان وشكلاً بلا روح (وإن جرت محاولات أخيرة لإحيائه)، وكذلك تراجع مهرجان جرش لأسباب أخرى إدارية وفنية، كما تراجعت محاولات إقامة مهرجانات في بعض البلدان العربية، لكن مهرجان أصيلة ومهرجان الجنادرية ظلاّ قائمين ويستقطبان سنوياً نخباً متميزة من المثقفين في أجواء تتسم بالاحترام والحرية والتنوع والحوار البناء.
إن الإشكالية الأساسية تتعلق بتشابك وتعقّد موضوع الثقافة أساساً, ولا سيما إداراتها، فإذا كانت الحكومات في المجتمعات المتقدمة تخلّت طوعياً عن إدارة الشؤون الثقافية وأوكلتها إلى السلطات المحلية في المدينة والحي، الأمر الذي أتاح مقاربات متنوعة ومتعددة، وخلق شراكات بين الفاعل الثقافي الخاص والفاعل العمومي العام، وهو الأمر الذي لا تزال أوضاعنا الثقافية العربية تفتقر إليه، حيث لا تزال الثقافة تابعة للسلطات ويدير شؤونها أحياناً من لا علاقة له بالثقافة.
إن من يمسك بميزان الثقافة ومن بيده السلطة كي يقرر الفعل الثقافي، قبولاً أو رفضاً، يتداخل في أوضاعنا العربية مع عناصر عديدة وأطراف مختلفة، حيث تتحكم فيه أحياناً إملاءات سياسية وأيديولوجية وتوجهات دينية وغير ذلك.لقد شهدت حقبة الحرب الباردة حساسية شديدة للاصطفاف السياسي، ولاسيما من خلال الصراع الأيديولوجي واستقطابات وأنشطة وأحكام جاهزة وتصنيفات مسبقة بحيث جعلت المهرجانات الثقافية وسيلة من وسائل الصراع، للتعريف بما لدى هذا المعسكر من مزايا وإيجابيات، وتسفيه ما لدى المعسكر الآخر وتحقيره، خصوصاً أن جهات رسمية كانت تقف خلف تلك المهرجانات، التي وجدت انعكاساتها لدى بعض البلدان العربية، حيث وصلت إلى السلطة فيها بعض النخب عبر الانقلابات العسكرية، كما تمترست أنظمة تقليدية بخطاب محافظ.
ورغم احتراز المثقف إزاء الانخراط في بعض المشاريع والفعاليات الرسمية، خوفاً من احتسابه سياسياً على ملاك هذا النظام أو ذاك أو هذه المجموعة أو تلك، فإن مثل هذه الحدود تلاشت إلى درجة كبيرة، بعد انهيار الأنظمة الشمولية في أوروبا الشرقية والاتحاد السوفياتي، وسيادة قيم الحرية والتعددية والتنوع الثقافي واحترام حقوق الإنسان، الأمر الذي وجدت فيه المهرجانات الثقافية العربية القائمة، لا مندوحة إلاّ بالأخذ في الاعتبار هذه التطورات، والانفتاح على المثقفين من جميع الاتجاهات الفكرية والسياسية. وأظن أن النخب التي شاركت في مهرجان أصيلة وفي مهرجان الجنادرية في السنوات الـ 20 الأخيرة، عكست التنوع والاختلاف والمدارس المتعددة فكرياً وسياسياً، ناهيكم عن أصولها ومنطلقاتها.
لقد شكلت فترة العقدين الماضيين مخاضات جديدة وتجاذبات مختلفة بالنسبة للجهات المنظمة ولجهات المثقفين والمبدعين، فلم يعد الاصطفاف الأيديولوجي المسبق العامل الحاسم، وارتفع وزن العامل الإبداعي وقيم الحرية والحوار وحق الاختلاف واحترام حقوق الإنسان، بحيث طغى على الانحيازات المسبقة. وقد يكون ذلك في جزء منه عقّد مهمة المثقف، إذ كان الاصطفاف أمراً سهلاً، لكنه كان صعباً في فحص المعايير الإبداعية، خصوصاً في ظل غلبة السياسي وتحكّمه، ولا سيما البيروقراطيات الحزبية أو الحكومية، التي شكّلت كابحاً في وجه المثقف وتطلعاته، وأحلامه وخيالاته ورؤيته للجمال والحياة، ناهيكم عن نظرتها القاصرة للثقافة والمثقفين.
أعتقد أن غياب بيئة تشريعية مناسبة، فضلاً عن أن البيئة التعليمية والتربوية، بما فيها المؤسسات الجامعية، لا تزال قاصرة، خصوصاً في ظل تفشي الأمية التي تنتشر في العالم العربي لتصل إلى أعلى النسب العالمية، حيث لا يزال يوجد فيه أكثر من 71 مليون أمي، إضافة إلى استشراء الفقر والمرض والتخلف، وهذه كلّها معوّقات أمام الثقافة والتنمية، وأمام بيئة ثقافية تحييها مهرجانات ثقافية للعمل والإبداع. إن كل ذلك يجعل العالم العربي أقل من غيره بكثير في استقبال الثقافة، وحسب تقديرات مؤسسة الفكر العربي، فإن المواطن العربي لا يقرأ سنوياً أكثر من ربع صفحة، في حين أنه في الولايات المتحدة يقرأ ما لا يقل عن عشرة كتب وفي إسرائيل عدونا نحو ستة كتب.
وكشفت تقارير التنمية البشرية عن الهوّة السحيقة بين عالمنا العربي وبين العالم المتحضر، الأمر الذي يعوق التنمية ويضع عراقيل كونكريتية أمامها، فاستمرار شح المعرفة والنقص الفادح في الحريات، ولا سيما حرية التعبير، واستمرار عدم الاعتراف بحقوق المرأة وتهميشها، وعدم الاعتراف بالتنوع الثقافي في مجتمعات متعددة، كل ذلك يعود سلباً على مستوى الثقافة ومنتجها، فضلاً على مهرجاناتها، التي تظل محدودة التأثير ومحصورة في النخب أو في قليل منها.
إذا كان مهرجانا أصيلة والجنادرية قد نجحا، فلأنهما امتلكا إدارة وتخطيطا وتنظيما وتنفيذا وتقويما (لمراجعة أدائهما), خصوصاً بتحديد الأهداف والوسائل وتوصيف مناهج العمل وتوّقع النتائج، والأكثر من ذلك أنهما رغم ما تطمح إليه القوى المنظمة من ترويج لبعض النجاحات على المستوى الاقتصادي والاجتماعي، لكنهما لم يكونا مؤدلجين، وقد كبر فيهما منسوب الحوار والجدل، ولا سيما في السنوات العشر الأخيرة، التي شهدت نقاشات لعدد من كبار المثقفين العرب، بغض النظر عن توجهاتهم الفكرية والسياسية.
أعتقد أنه آن الأوان لإعادة النظر في الفعل الثقافي والإبداعي، بما يعطيه حقه وبما يوفر له الفرص المناسبة لانتشار الثقافة وتعميق الوعي الثقافي، وعندما تصبح الثقافة حاجة ضرورية وماسّة، عندها تكون التنمية قد دخلت مرحلة عليا من مراحل تطورها بالارتباط مع الحلقات الأخرى.
لا يكفي اليوم أن تكون وزارات الثقافة العربية، حارسة للثقافة وولية أمر المثقفين، وإذا ما أخذنا حساسية المثقف، فإن الرسالة الأيديولوجية في كثير من الأحيان ستكون عكسية وتبرز هناك ممانعات علنية ومستترة، إذ لا يمكن لجهاز غير مستقل أن يتولى إدارة شؤون الثقافة والمثقفين. وفي بعض الأحيان اعتبرت بعض المهرجانات تابعة لوزارات الإعلام وألحقت الثقافة لها في ظل عقلية متحكمة، تنظر هي قبل غيرها إلى مرفق الثقافة، باعتباره جزءا بسيطا ومحدودا من سياسة الحكومة، التي غالباً ما تجعل تخصيصات الثقافة ضئيلة قياساً إلى كثير من المرافق.
إن تراجع مشاريع التحديث الثقافي وتنامي ظاهرة التبشير الأيديولوجي، ولا سيما الديني، أدى إلى انتشار التطرف والتعصب والغلو واستخدام العنف والإرهاب وسيلة لحل الخلافات السياسية وغير السياسية.
وإذا كانت المهرجانات الثقافية العربية غير قادرة على حل أزمة الثقافة وإعادة النظر في دور المثقفين، فلعلها تسهم في فتح الحوار حولها، وهو حوار مفتوح ومطروح منذ أكثر من عقدين من الزمان، الأمر الذي يحتاج إلى معالجات جادة واستثنائية، فمظاهر الأزمة تتجلى في تهميش المثقف ومحاولة إلحاقه بالسلطة أو اعتباره عدواً وخصماً لها، فضلاً عن ذلك فإن تراجع الاتجاهات العقلانية، أدى إلى ارتفاع موجة التطرف الديني والتخندق المذهبي، وبالمقابل سادت الروح الديماغوجية والتغولية الدعائية وادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة وتحريم وتجريم الآخر، والتشبث بالماضي هروباً من استحقاقات الحاضر.
لقد كان للثقافة الاستهلاكية وتدني مستوى التعليم وسيادة أشكال من الفن الهابط، إضافة إلى استفحال الصراعات الإثنية والطائفية والمذهبية وتهميش المرأة نصف المجتمع وعدم الاعتراف بحقوق وثقافات الجماعات الثقافية والقومية والدينية والسلالية، الأمر الذي أدى إلى نكوص ثقافات التنوير والعقلانية، ودفع الأمور باتجاهات ضيقة وتصادمية.
لقد غاب المثقف العضوي حسب تعبير أنطونيو جرامشي، وهو المثقف الذي عرفناه في الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي، باعتباره ملتحماً بقضايا شعبه، الأمر الذي كان نتاجاً للهيمنة والإقصاء والتهميش التي تعرّض لها، وهو ما دفعه إلى العزلة، خصوصاً في ظل ضيق الحريات وتفتيش الضمائر والملاحقة، حيث اضطر في كثير من الأحيان إلى اختيار المنفى طريقاً للخلاص من جهة، ولمعاودة ورفد إبداعه ونتاجه في أجواء من الحرية غير متوافرة موضوعياً في عديد من البلدان العربية.
إن المهرجانات يمكن أن توفر مكاناً للحوار الجاد بين النخب الفكرية والسياسية والدينية، وبينها وبين السلطات، خصوصاً إذا ما اكتسبت قيمة نقدية وجمالية بعيداً عن الإرهاب الفكري والتحريم والتجريم.
وأظن من واجب ومسؤولية القائمين على المهرجانات وشؤون الثقافة العمل على تجسير الفجوة بين النخب بعضها بعضا، ومعها ومع الحكومات، وفتح حوارات ثقافية وفكرية معرفية جادة حول مستقبل الثقافة العربية والسبل للخروج من أزمتها، ولن يتم ذلك إلاّ باحترام الإنتاج الفكري والفلسفي والإبداعي وتوسيع دائرة الحريات، ولا سيما حرية التعبير، وتعزيز روح الثقة والأمل والحضور بوجه ثقافات اليأس والقنوط والعولة، ولن يتم ذلك إلاّ بالانفتاح على الثقافات الأخرى، سواء التنوع الثقافي واللغوي والسلالي والديني في عالمنا العربي أو على ثقافات الغير، لتعزيز الحوار والتبادل والتفاعل الثقافي، ودون ذلك لا يمكن الحديث عن خصوصية ثقافية أو أمن ثقافي، فالانغلاق والتقوقع لا علاقة لهما بالهوية، التي تتعمق وتعتني بالانفتاح والتواصل مع الثقافات الأخرى، تأثراً وتأثيراً.
وإذا كانت المهرجانات الثقافية العربية في حاجة إلى مزيد من الموارد لتوسيع دائرتها وخلق أجواء مناسبة لتهيئة كل مستلزمات نجاحها بجميع جوانبه، فإن المال وحده لا ينتج ثقافة، مثلما المهرجان وحده لن ينتج مثقفاً، لكن هذه العوامل جميعها تنتج ثقافة، التي هي أساس التنمية والحاضن لها، والثقافة بلا أدنى شك قيمة عليا وثروة كبرى.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي