Author

المملكة العربية السعودية بدون بترول «إطلالة على الزمن البعيد»

|
قد يعتقد بعض المواطنين أن تصبح المملكة العربية السعودية يوماً ما من دون بترول، فهذا ضرب من الخيال أو نظرية صعبة المنال. وإن كان الخطاب موجهاً إلى من لديهم شيء من العلم والمعرفة، فالجواب على هذا العنوان المستفز قد يكون: الأمر ليس بالمستحيل، لكنه بعيد جداً جداً، ومن ضياع الوقت والجهد جعله محل اهتمام كبير، ونحن أمام قضايا اقتصادية واجتماعية وسياسية آنية. هذا في اعتقادي هو موقف الرأي العام، وإلى حد ما الموقف الحكومي من إشكالية النضوب المتزايد لاحتياطيات المملكة من خام البترول بالاستخراج والتصدير، دون تركيز أساسي على بناء رأسمال منتج يحل تدريجياً محل ما استُهلك من الاحتياطيات البترولية. فكري وإدراكي يصعب عليه التعايش مع هذا التساهل من عملية نضوب البترول السعودي، والحقائق الاقتصادية والجيولوجية تصرخ في رأسي صباح مساء، خصوصاً عندما أنظر إلى طفل رضيع أو أم تحمل في بطنها جنيناً قادماً إلى الحياة والمستقبل. دعوني أنتقل من الوصف إلى الحقائق الجيولوجية والاقتصادية الراهنة المزروع في داخلها ذلك المستقبل البعيد بأبعاده المخيفة. المستقبل البعيد الذي أتحدث عنه هو الذي يبدأ بعد 70 عاماً، أي العام 2085 ميلادي من هذا القرن، وهو زمن، وإن كان بعيداً في عمر الأفراد، إلا أنه زمن قصير جداً في عمر الشعوب والأجيال. العمر الزمني للبترول السعودي: يقدَّر العمر الزمني للبترول السعودي بحوالي 70 عاماً حسب معدلات الاستهلاك الحالية للنفط ومعدلات نموها المستقبلي، إضافة إلى ما يمكن العثور عليه من بترول جديد في مكامن جيولوجية جديدة، أو ما يمكن استخراجه من الآبار القديمة، وهذا العمر البترولي لا يأخذ في الحسبان أي تقنيات جديدة في مجال الطاقة تؤدي إلى إحلال بديل للبترول، خصوصاً في مجال المواصلات، ويؤدي إلى خفض الطلب على البترول بشكل حاد. هناك مراجع كثيرة فيما يتعلق بتقدير العمر الافتراضي للبترول، استناداً إلى الحقائق الجيولوجية والاقتصادية والتقنية الراهنة، وإن اختلفت الأرقام فإنها تظل في هذه الحدود الزمنية. النمو السكاني وزيادة الاستهلاك: يقدَّر حجم السكان السعوديين في المملكة العربية السعودية بحوالي 20.8 مليون نسمة في العام 2010م، أكثر من نصفهم من صغار السن، ما دون الخامس عشر، وإذا أخذنا في الاعتبار أن متوسط حجم العائلة ستة أفراد، وهو رقم مرتفع حسب النسب العالمية، كما أن معدل النمو السكاني في المملكة يبلغ 2.8 في المائة سنوياً في الوقت الراهن، وهذا أيضاً يعتبر من المعدلات السكانية العالية في العالم، بناءً عليه فإن حجم عدد السكان السعوديين في المملكة سوف يتزايد بشكل كبير في السنوات القادمة. وتقدر الدراسات أن حجم سكان المملكة سيصل إلى 31.8 مليون في العام 2025م أي بزيادة قدرها 80 في المائة عن العام 2000م، وإذا اعتمدنا هذا المقياس رغم بساطته، من أجل إعطاء مؤشر عام وخفضناه إلى 50 في المائة في زيادة عدد السكان كل 25 عاماً، بدلاً من 80في المائة، فإن سكان المملكة في العام 2075م سيكون في حدود 70 مليوناً. هذا الكم الهائل من السكان يتطلب كماً هائلاً من الاستهلاك: غذاء، وماء، ودواء، وسكن، ومدرسة إلى آخر المتطلبات البشرية الضرورية وغير الضرورية. الاعتماد الاقتصادي شبه الكلي على إيرادات النفط: لا أعتقد أن الأمر يحتاج إلى شيء من التفصيل لإثبات اعتماد ميزانية الدولة، شبه الكامل على إيرادات الدولة من استخراج وبيع النفط. فالإيرادات البترولية في ميزانية الدولة، خصوصاً فيما يتعلق بالقطاع الأجنبي من الصادرات السعودية تصل إلى 90في المائة من الإيرادات العامة. خطط التنمية الاقتصادية ومنذ بدايتها الأولى عام 1970م وحتى الخطة الثامنة (2005-2010م)، جميعها تنادي بما أسمته "تنويع مصادر الدخل" أي بناء مصدر للدخل غير المصدر البترولي. وإذا كانت الميزانية ومعها الاقتصاد الوطني لا تزال تعتمد اعتماداً شبه كلي على الإيرادات البترولية في العام 2010م، فإن مشروع تنويع مصادر الدخل في الخطط الخمسية على مدى أربعين عاماً، لم يؤتِ ثماراً، ولم يوجد لنا مصدراً مهماً من الدخل يحل تدرجياً محل المصدر البترولي. الخوف من المستقبل البعيد.. هل له ما يبرره؟ إذا استمر البناء الاقتصادي لرأس المال المنتج الذي يمكن أن يحل تدريجياً محل البترول الناضب، كما هو عليه الآن، فإن الخوف من المستقبل وعلى مصير الأجيال القادمة له ما يبرره بشكل قوي. فالطامة الكبرى أن ينتهي البترول أو يوشك على الانتهاء جيولوجياً أو اقتصادياً قبل أن نبني رؤوس أموال منتجة، قادرة على إنتاج دخل يحل محل الإيرادات البترولية في تمويل عمليات الاستهلاك والاستثمار للمجتمع السعودي بشكل دوري ومتتابع. صحيح أن المملكة العربية السعودية لا تنعم بقدر كبير من الموارد الطبيعية القابلة للاستثمار المنتج، مثل البترول والغاز، لكن هذا الشح في الموارد الطبيعية يجب أن يكون دافعاً لنا في ثلاثة اتجاهات رئيسة، أولاً: بناء قاعدة كبيرة للتقنية الحديثة والإبداع وتوطينها في عقول أبناء هذه الأمة رجالاً ونساء، وثانياً: ادخار جزء مهم وثابت من إيراداتنا البترولية واستثماره في بناء رأس مال بشري ومادي منتج ليس له علاقة بالبترول والغاز بدلاً من إنفاق معظم الدخل على أمور استهلاكية ومشاريع غير منتجة، وثالثاً: ترشيد عملية استخراج البترول وربطه بالمصلحة الوطنية التي تقضي بإبقاء جزء منه داخل الأرض من أجل الأجيال القادمة، حيث إن أسعار البترول مع مرور الزمن تتزايد قيمتها بفعل الندرة؛ ما يجعل العائد المالي من قيمة البرميل داخل الأرض أفضل من العائد المالي في استثماره أجنبياً أو محلياً. إننا نستطيع القول بشكل عام إن الجهود التي بذلت خلال الأربعين عاماً الماضية لتكوين رأسمال منتج مستقل عن البترول، قادر على تمويل العمليات الاستهلاكية والاستثمارية لعدد من السكان يصل إلى 70 مليوناً بعد 70 عاماً، لا تبدو مقنعة بأنها سوف تأخذنا إلى بر الأمان عندما ينضب البترول جيولوجياً أو اقتصادياً وتهوي إيرادات الدولة من مبيعات البترول إلى مستويات منخفضة جداً. ما هو إذن البديل الذي يمكن أن يعتمد عليه؟ لا شك أنه يجب النظر في جميع القطاعات والموارد التي يمكن من خلالها بناء قاعدة لرأسمال منتج يدر دخلاً يحل تدريجياً محل إيرادات الدولة من البترول في الأمد البعيد. ومن أهم هذه الاستثمارات الرأسمالية الممكنة هو الاستثمار في رأس المال البشري، أي الاستثمار في بناء الإنسان المواطن رجلاً وامرأة وتأهيله تأهيلاً رفيعاً علمياً وتقنياً وفكرياً، إنه استثمار منتج واستثمار في رأس مال متنامٍ وغير ناضب. ويبدو أن هناك جهوداً حثيثة في عهد الملك عبد الله بن عبد العزيز لإعادة بناء الإنسان السعودي بناءً علمياً، رغم أن هذه الجهود لا تزال في بدايتها، لكنها على الطريق السليم. ورغم أهمية العلم في بناء العقل والفكر الإنساني المبدع المتحضر، إلا أن العلم لن يؤتي بثماره كلها ما دامت هناك مراكز قوى اجتماعية تستخدم الدين مطية لوضع الأغلال حول كل عقل يستنير بوقود العلم والمعرفة. إن المعادلة الصعبة في بناء الإنسان السعودي رجلاً وامرأة ليست في إعادة هيكلة التعليم والابتعاث، وإنما أيضاً وبشكل أهم في فك الأغلال التي ينسجها البعض منا حول المجتمع وتطوره مستخدمين الدين، والدين من ذلك براء. هذا هو الدور الأساسي للسلطة السياسية العليا المسؤولة عن إزالة الألغام عن الطريق العام وإفساح المجال لبناء إنسان منتج مبدع مؤمن حضاري. وأي مجتمع تكون هذه مواصفات أفراده يكون قادراً على الإبداع وإنتاج موارد للدخل البديل، عندما ينضب مورد دخلها. هكذا علَّمنا التاريخ وهذه قصة كل الشعوب التي ما إن ينضب مورد أساسي من موارد دخلها إلا وأبدلته بغيره قبل أن ينتهي. إن وراء كل سلعة كبيرة يستخدمها العالم ويدفع البلايين لشرائها قصة إبدال وإحلال، في المواصلات وفي الكهرباء وفي الدواء وفي الاتصالات وفي الغذاء وفي الصناعة وفي الزراعة وفي السلاح. قصص إحلال قامت بها شعوب تسلحت بالعلم والمعرفة. وكما قلت وقال غيري الدين الإلهي دين تقدم وإبداع وحضارة، أما دين الأئمة والمشايخ فهو رأي بشري يؤخذ منه ويرد عليه، وليس له صفة الإلزام والثبات. ورغم أن بناء الإنسان هو العمود الفقري في بناء رأسمال سعودي منتج، يحل تدريجياً محل البترول المنقرض، إلا أن ذلك لا يكفي وحده، فإلى جانب الإنسان المنتج لا بد من بناء رأسمال مادي منتج في قطاعات ومجالات اقتصادية مختلفة، بحيث يتضافر الجهد البشري المنتج مع رأس المال الوطني المنتج في بناء قاعدة إنتاجية وطنية تدر دخلاً وطنياً يكفي لتأمين عمليات الاستهلاك والاستثمار، لشعب سيصل إلى حوالي سبعين مليون نسمة عندما يصل بتروله الذي يغذيه إلى مرحلة الزوال المادي أو الاقتصادي. إن بناء هذه القاعدة الوطنية الرأسمالية المنتجة من الإنسان والمادة، هي قرار سياسي استراتيجي وليس قراراً يترك لآلية السوق لكي تقوم به. إنه قرار مصيري، وآلية السوق لا تتعامل مع الاستثمارات المصيرية، فهي غير قادرة عليها. يكتب بول سامولنسون (Paul A. Samuelson) العالم الاقتصادي الأمريكي والأب الروح لمبادئ علم الاقتصاد الحديث والحائز على جائزة نوبل للسلام، في الصفحة 207 من كتابه علم الاقتصاد: “ما لم تكن هناك سياسات اقتصادية موجهة على مستوى الاقتصاد الكلي فإن نظام الاقتصاد الحر لا يمكن أن يضمن وجود استثمارات كافية لتحقيق التشغيل الكامل للاقتصاد”. إن قراءة منجزات الخطط الاقتصادية الخمسية للدولة الثمانية على مدى الأربعين عاماً الماضية (1970-2010م)، في مجال تنويع مصادر الدخل، لا تنبئ بخير مهما حاولنا تحسين نتائجها، يكفي فقط أن ننظر إلى الحجم الكبير والنسبة العالية التي يشكلها الإيراد البترولي في ميزانية الدولة ونفقاتها للعام الحالي 2010م لنؤكد هذه الحقيقة. إن أمام المملكة العربية السعودية للخروج من هذا المأزق الاقتصادي الاستراتيجي فرصة وحيدة ومربوطة بزمن محدود، فأما ادخار وبناء رأس مال منتج قادر على تكوين دخل يحل محل الدخل البترولي عندما تغيب شمسه وأما كارثة اقتصادية لها تبعات اجتماعية وأساسية إذا انخفض الإيراد البترولي بشكل حاد ولمدة طويلة، بينما الإنفاق والاستهلاك الحكومي والفردي مستمر في الصعود. الخطوة الأولى على الطريق السليم تبدأ بإرادة سياسية عليا، عالمة ومدركة للحقائق المستقبلية الاقتصادية التي تنتظر هذه الأمة، وبناءً عليه تتخذ القرار الاستراتيجي اللازم لضبط وإدارة السياسات الاقتصادية العليا والكلية، من أجل بناء رأسمال وطني منتج بديلاً عن البترول عندما يتجه البترول للتقاعد.
إنشرها