يبدو مجرى نهر النيجر الأكبر على مستوى غرب إفريقيا بائساً، حتى وأنت تنظر إليه من وسطه وشاطئه الطويل الممتد بين عدد من دول غرب إفريقيا. في الواقع ليست هذه الصورة إلا نصف الحقيقة للذين يزورون هذه المناطق من إفريقيا، فعلى أطراف أخرى من هذه البلدان يشاهد المرء مزيدا من مشاهد البؤس: نساء يحفرن في بيوت النمل لأكل الحبوب والبذور التي خزنها النمل، وأطفال عرايا يتسلقون الأشجار العالية لالتقاط الثمار البرية وأوراق الشجر والذرة المخصصة لتغذية الدواجن في بلدان أخرى، بيد أن هذه المشاهد ليست حكراً على نيامي فثمة بائسون يلتحفون السماء في ليل فريتاون المملوءة بجيوش الناموس المسببة للملاريا القاتلة, لا لشيء سوى أنهم لا يجدون ملجأ أو مطعماً يسدون به رمقهم. وبالعودة إلى النهر فإن هناك بعضا من المياه الملوثة، خلال أيام متقطعة بين نيامي وأطرافها في النيجر، وفريتاون في سيراليون، تتبعت بألم هذه الصور وأكثر وتساءلت في نفسي عما يمكن أن تقدمه المؤسسات المالية الإسلامية لسكان هاتين الدولتين, اللتين تشكل نسبة المسلمين فيهما 70 في المائة و98 في المائة على التوالي.
على الرغم من النجاحات الكبيرة التي حققتها الصناعة المالية الإسلامية في الآونة الأخيرة, إلا أنها في الواقع لم تجد الحلول المناسبة للخلاص من حالة الفقر التي تسكن معظم الدول الإسلامية، ولا سيما في هذه الأوقات التي تتحدث فيها تقارير عن تعرض الملايين من سكان هذه المناطق لخطر المجاعة، فقد حذرت قبل أيام المنظمة الخيرية البريطانية «أوكسفام» من أن عشرة ملايين شخص يواجهون خطر المجاعة في دول غرب إفريقيا بسبب فشل مواسم الحصاد وانتشار الجفاف, ودعت المانحين إلى التحرك بصورة عاجلة قبل تحول أزمة الغذاء في غرب إفريقيا إلى كارثة.
تزايد الفقر في الدول الإسلامية
ويحدد التقرير تدهور الأوضاع في المنطقة الممتدة عبر الصحراء الجنوبية في غرب إفريقيا التي شهدت ارتفاع معدلات سوء التغذية بسبب ندرة الطعام, حيث توضح «أوكسفام» أن النيجر، التي تعد البلد الأقل نمواً في العالم، تقع في صلب الأزمة، حيث يواجه سبعة ملايين نسمة، أي ما يقارب نصف السكان، انعدام الأمن الغذائي، ويعاني 3.3 مليون نسمة آخرون ندرة المواد الغذائية. يضاف إلى ذلك مليونا شخص في تشاد وأكثر من 600 ألف في مالي و300 ألف شخص في موريتانيا، مع التذكير بأن الجفاف ألحق ضرراً واسعاً بأجزاء من بوركينا فاسو والمناطق الشمالية من نيجيريا.
هذه المعلومات في الواقع إذا ما تمت مقارنتها بمشهد الصناعة المالية الإسلامية اليوم فإنها تبدو محبطة, خاصة أن معظم هذه المشكلات, وأعني مشكلات الفقر, تقع في البلدان الإسلامية, حيث يمكن توجيه هذه المصارف والمؤسسات إلى العمل على حلها، وهنا تحديداً يتحدث خبراء في المجال عن انحراف المصارف الإسلامية عن أهدافها الأساسية, وهي محاربة الفقر وتنمية المجتمعات, حيث يدعو البعض إلى ضرورة إعادة هندسة التمويل الإسلامي ليصبح لمصلحة الفقراء.
التمويل الإسلامي ليس موجها للفقراء
واقع التمويل الإسلامي ليس موجها للفقراء, حيث يري البعض كالدكتور عبد الكريم قندوز المحاضر في قسم العلوم المالية في كلية العلوم الإدارية في جامعة الملك فيصل, أنه على الرغم من أن التمويل الإسلامي يهدف إلى الابتعاد قدر الإمكان عن المداينات إلا أن التطبيق والواقع يثبتان عكس ذلك، إذ تعتمد المصارف الإسلامية في تمويلاتها المختلفة على الصيغ التي تكون نهايتها ديونا، كالمرابحة والإجارة، بينما نجد أن صيغ التمويل الأخرى التي تمثل جوهر وحقيقة التمويل الإسلامي القائم على المشاركة في الأرباح والخسائر، كالمضاربة والمشاركة قليلة الاستخدام.
ويضيف أنه على الرغم من كل ذلك إلا أنه من الأولى أن يتم تصحيح مسار التجربة المصرفية الإسلامية، بحيث يكون هناك توازن في تمويلاتها عن طريق استخدام مختلف الصيغ الإسلامية، فالمتأمل لواقع التمويل الإسلامي سيجد أن المصارف الإسلامية على الرغم مما تقوم به من مجهودات لتوفير التمويل للفقراء وأصحاب المشاريع الصغيرة والمتوسطة, إلا أنه يبقى بعيداً عن الهدف الذي وضعته هذه المصارف في بداية مسيرتها، ما يؤكد فكرة انحراف مسيرة العمل المصرفي الإسلامي, حيث يرى في هذا الخصوص, أن الهندسة وإعادة الهندسة المالية تعتبر مدخلاً مستحدثاً وأصيلاً في الوقت ذاته، يحقق كثيرا من الأهداف، كتصحيح مسيرة العمل المصرفي الإسلامي، وإثبات قدرة المصارف الإسلامية على إعطاء البدائل الأفضل في كل الظروف.
الحاجة إلى إعادة هندسة
التمويل الإسلامي
ويضيف قندوز أن أسباب الحاجة إلى إعادة هندسة التمويل الإسلامي كثيرة, منها أن بعض المصارف الإسلامية لا تخصص مجهودات كافية في النظر إلى حاجات الطبقات الفقيرة من المجتمعات المسلمة, حيث نرى زيادة كبيرة ومستمرة في عدد الفقراء في هذه الدول، ويضيف أنه لا بد من اتخاذ كل الوسائل اللازمة للحد من الفقر في هذه الدول، ويؤكد أن وظيفة النظام المالي في هذا الخصوص تبدو حيوية على اعتبار أنه يمثل عنصر الارتكاز من أجل استراتيجية الحد من الفقر، خاصة إذا علمنا أن ما هو متاح الآن «أي النظام المالي القائم على الفائدة» ليس قادراً على ذلك، حيث تصل الفوائد على التمويلات الممنوحة أحيانا إلى 1000 في المائة.
ويشير قندوز ضمن الأسباب التي تدفع باتجاه إعادة هندسة التمويل الإسلامي لمصلحة الفقراء إلى إعطاء البديل الإسلامي فرصة للحد من الفقر, وذلك من خلال النظـام المالي والمصرفي، بمنح القروض الميـسرة والصغيرة جداً التي أثبتت ربما نجاحا إلى حد ما, على فرض أن تكون النظرية التمويلية الإسلامية قادرة على إيجاد البديل الذي يحقق على الأقل مزايا التمويل التقليدي نفسها لمصلحة الفقراء مع مراعاة الجوانب الشرعية «الفائدة المصرفية مهما كانت قليلة فهي في النهاية ربا».
ويضيف أن هناك كثيرا من الأدلة التي أثبتت أن شريحة الفقراء لها القدرة على استخدام خدمات الائتمان إذا كانت بتكلفة مالية محدودة، داحضة بالتالي القناعات السائدة عن عجز تلك الفئة عن الاستفادة من الخدمات المالية، وارتفاع تكلفة تقديم الخدمات المالية إليها، وإن كنا لا نرى أن عدم قدرة تلك الفئة على استخدام الخدمات المالية مبرراً لعدم حصولهم عليها.
ويشير إلى ذلك قائلاً «إن هذه الدوافع لا تعني بالضرورة أن الواقع الحالي غير ملائم للفقراء، أو أن النظام المالي الإسلامي لا يقوم بما هو مفترض، لكن التفرقة بين ما تهدف إليه النظرية التمويلية الإسلامية وما هو مطبق في الواقع تبدو أحيانا جلية ولا تحتاج إلى أن يشار إليها .. وفي كل الحالات فإنه إذا كانت أمامنا فرصة لتحسين الواقع، فلا شك أن ذلك سيكون أفضل، ما دام أن من بين ما تعنيه إعادة الهندسة المالية تحقيق أهداف لم يكن بالإمكان تحقيقها قبل إعادة الهندسة».
ويذكر قندوز الأسس التي يمكن أن تنبني عليها إعادة هندسة التمويل الإسلامي, وهي: تحريم الربا والغرر، حريـة التعـاقـد ، التيسير ورفع الحرج، والاستحسان والاستصلاح.
ويوضح كيف يمكن أن تخدم إعادة الهندسة للتمويل المصرفي الإسلامي الفقراء كتخفيض تكاليف التمويلات الممنوحة، وهو ما سيفيد الفقراء بشكل كبير، وابتكار صيغ جديدة لخدمة الفقراء، والتوسع في منح التمويل، وتقليل مخـاطر التمويل، بشكـل يؤدي إلى الإنقـاص من الضمانات والكفالات التي تطلبها المصارف عادة من أجل منح التمويل، وهي من الأمور التي يعجز الفقراء أصلاً عن توفيرها، بما يجعل معظم التمويل يذهب للموسرين، وزيادة رأسمال المصارف الإسلامية، بشكل يسمح بمنح القروض الحسنة، علماً أن المصارف الإسلامية تتجنب بشكل كبير في تمويلاتها الممنوحة القروض الحسنة، على اعتبار أن عائدها المادي منعدم.
ويبين في ختام بحثه, الذي استندنا إليه, أهم صيغ التمويل الإسلامي التي يمكن توظيفها لمصلحة الفقراء, وذلك باستخدام الهندسة وإعادة الهندسة, حيث يقول «يمكن تركيب أو تشكيل أدوات جديدة انطلاقاً من مجموعة من الأدوات التمويلية, وذلك تلبية لرغبات عملائها اللامتناهية وغير المحدودة، ولخدمة أصحاب الدخول المحدودة والفقراء، وكذا المشاريع الصغيرة والمتوسطة, وهذه الصيغ مثل: المرابحة، عقد الاستصناع، بيع السَّلم، المضاربة، الإجارة، المشاركة, وغيرها».

