Author

مقاهي المثقفين العرب ..

|
المقهى مكان خارج المكان ووجود في فضاء آخر، ذلك أنه يمثل قاسما مشتركا لكل الأمكنة التي نعيش فيها، وهو بشكله ومضمونه يجمع بين أغراضه المتعددة ليصبح محطة رابطة بين أمكنة العيش، وأمكنة العمل، وأمكنة الترفيه، وأمكنة المناسبات بأفراحها وأتراحها، بل يمكن أن يكون في لحظة ما المكان المختزل لكل هذه الأمكنة، كما يلعب دورا حيويا في الربط بين الأفراد بعلاقات جديدة ومصالح متقاطعة خروجا عن سأم الحياة اليومية، وانفلاتا من ضغط العلاقات الإجبارية من الناحية الاجتماعية ومن ناحية العمل، وهو بما يتمتع به بهذه العلاقة المشتركة، يمكن أن تتغير صفاته وأسماؤه وملامحه، ولكنه لا يبتعد في أساس وجوده عن وظيفته الأولى، ولا يتخلف عن القيام بالدور الإنساني المأمول منه، فهو مكان للقاء غير روتيني، قد يعد بذرة بداية لنشاط إنساني فاعل، فهو ليس مكانا لإزجاء وقت الفراغ، أو لصناعة الكسل، الذي يصبح مطلبا في وقت ما للتخلص من جدية العمل، وضغط الواقع الحافل بالسعي والكد لتحصيل الرزق. التاريخ أقل أهمية من المضمون إن البحث عن تاريخ نشوء المقهى قد يصطدم بكثير من الحواجز والحدود، ذلك أنه يعبر عن فكرة إنسانية ثقافية واجتماعية، لا تقف عند تاريخ بعينه. وفي المدن العربية لم يقف المقهى عند حدود كونه مكانا لشرب القهوة والنارجيلة ولعب الورق، بل يعد عنصراً أساسيا من عناصر بنيتها الحضارية، وربما لا تعنينا البداية كثيرا بقدر ما يعنينا أن نتعرف على الدور، أو الأدوار المتعددة له بحيث نستطيع أن نستدل من خلالها على الوظيفة المتعددة والمتنوعة له، والتي تكشف عن علاقة قديمة ومتجذرة فى حياة المدينة العربية. وإن كانت المقاهي قد تعددت أنواعها واختلفت وظائفها وروادها، إلا أن أهمها وأكثرها تأثيرا وشهرة هي تلك التي تسمى المقاهي الثقافية، وقد تميزت عن غيرها، وامتلكت خصوصيتها من خلال روادها، فقد كانت دوماً بؤرة جاذبة للأدباء والمثقفين، وملاذا في أحيان أخرى للقاءات فكرية معارضة، بل يمكن أن نقول إنها تحولت إلى مؤسسات اجتماعية حرة ومفتوحة توفر الاتصال الثقافي الشفهي، الذي لا يضع ضوابط على نوعية الزبائن، كما أنها كانت حاضنة للنخب سواء على الصعيد السياسي أو الاجتماعي، وقبل دخول الراديو والتلفاز كانت المقاهي مركزاً لإقامة الحفلات الغنائية، وقراءة الصحف اليومية والأسبوعية التي يمكن للزبون قراءتها مقابل مبلغ ضئيل، وفوق ذلك أصبحت مكانا يجتمع فيه الأشخاص القادرون على التحاور والسجال في شؤون المجتمع والسياسة والثقافة. يتساءل جمال الغيطاني في مقدمة كتاب ''مقاهي الشرق'' لجيرار جورج ليمنز ''إلى أي عمق تاريخى ينأى عمر المقهى القاهري؟ لا يوجد مرجع تاريخي يحدد هذا، ولم تخصص دراسة لرصد تضاريس هذا العالم المتكامل، فقد أشار الدكتور مهند مبيضين في كتابه عن الترفيه في دمشق إلى أن القهوة أصبحت تشرب خارج البيوت منذ منتصف القرن السادس عشر الميلادي، استنادا إلى إشارة الغزي في كتابه ''الكواكب'' حين ترجم لعلي بن محمد الشامي، فقال إنه ''أشهر شرب القهوة بدمشق فاقتدى به الناس وكثرت من يومئذ حوانيتها''. ومهما يكن من وظائف المقهى التي تغيرت حسب الزمن، فإننا نستنتج من المصادر التاريخية جميعها قدم هذا المكان، والمساحة التي يشغلها في الحياة العربية، وهو ما لفت نظر كل الذين عاينوا هذه الحياة، وقد صنف ج. دي شاربرول المقهى القاهري بوصفه واحدا من العادات المدنية والأسرية، وأجمع المستشرقون والرحالة على تقديم المقهى بوصفه أحد أهم أركان الحياة الاجتماعية والثقافية، بحيث رسموا له صورة تقدمه مدارا لحركة الحياة، ومكانا ليس فاصلا تماما بين الحياة العامة والخاصة لرواده، وهي صورة تكشف في طياتها البعد الوظيفي لهذا المكان. وترى الباحثة رانيا أحمد أن ''حياة المثقف المصري ترتبط عضويا بالمقهى، بحيث يعتبره بعضهم بمثابة عنوان آخر لهم''، وترجح أن المقهى المصري الحديث كانت بداياته عام 1908 عندما افتتحه رجل ألماني اسمه برنارد ستاتبرغ، لكنه لم يدم طويلا فباعه إلى رجل فرنسي يدعى هنري ريسجييه عام 1914، واختار له اسم ''ريش''، ثم باعه لليوناني ــ المصري ميخائيل بيلتيس الذي كان مهتما بالفنون والآداب على مختلف أنواعها. ومن أبرز الفنانين الذين زاروا ''كافيه ريش'' كوكب الشرق أم كلثوم عام 1923، وشكلت تلك الأعوام بداية العصر الذهبي الذي استمر حتى سبعينات القرن الماضي، حيث كان يعج بالفنانيين والمثقفين، وقد أراد صاحب ''ريش'' أن يكون ذا طابع تنويري لرواده، الذين كانت أغلبيتهم من خريجي الجامعات الفرنسية، وصار ''ريش'' رمزا للثقافة والمثقفين في مصر وخارجها. سيسيولوجيا المكان وثقافة الاجتماع نشرت مجلة ''يورو زاين'' الأوروبية الثقافية ملفا عن القهوة والمقاهي، وترجمه الدكتور علي محمد سليمان، وفيه دراسة للناقد والمفكر الماركسي جيورجيان هابرماس، يرى فيه أن القهوة كانت مشروباً أسهم في تغيير التاريخ الثقافي والاجتماعي لأوروبا الحديثة، وهو يؤكد أن ظهور المقاهي التي كانت مخصصة لتقديم القهوة أسهم في تغير طريقة تعامل الناس مع الأمكنة العامة، وبخاصة تلك الطبقة البرجوازية التي تعرفت إلى أنماط جديدة من الأمكنة التي يمكن لها أن تنتج علاقات ثقافية واجتماعية مغايرة لما عرفه المجتمع الإقطاعي الأبوي.‏ إن الدراسات الاجتماعية الثقافية توجهت نحو دراسة القهوة وتأثيراتها في البنى الثقافية والسلوكية للأفراد والجماعات، باعتبارها طقوسا خاصة دخلت في المنظومة الاجتماعية وما يرافقها، لكن النظر إليها منعزلة عن المكان الذي تعيش فيه، جعل الدراسات حولها ناقصة، ومن هنا ظهر السؤال الأهم عن السر بين القهوة المشروب والمقهى المكان، ويرى كثير من المفكرين أن القهوة وكل ما يتصل بها من طقوس وعادات كانت من عناصر التنوير في العالم العربي، كما أن تلمس وقراءة علامات فارقة في التاريخ الثقافي الحديث يجعل من تاريخ القهوة والمقهى حقلاً ثقافياً يمكن من خلاله معرفة التطور الذي حصل على كافة المستويات. وفي هذا الصدد يرى هابرماس أن سر تأثير القهوة والمقهى في الحياة الثقافية يكمن في الخصائص المكانية للمقهى باعتباره فضاء اجتماعيا جديداً. ففي المقهى يستطيع الأفراد الالتقاء والاجتماع وفق نمط علاقات متحررة من ضوابط المؤسسات الاجتماعية التقليدية، خصوصاً العائلة، والدولة والمجتمع المدني، ويتشكل الفضاء بأشمل معانيه لأن المقهى يتحول في هذا الوضع إلى موقع لجماعة لا تتحدد العلاقة بين أفرادها بقوانين التبعية والسلطة، ولا بالمصالح الاقتصادية، بل بحالة من التشارك والإجماع على تجربة واحدة. وقد تباينت آراء العلماء في هذا الجانب، إذ يرد المؤرخ كارل شميتس، الموضوع إلى مشروب القهوة ذاته، فهو يرى أن هذا المشروب الداكن صار رمزا يمثل النزعة البرجوازية للإحساس بالأمان في المكان الاجتماعي. ومن جانب آخر يرد المفكر الكسندر كلوغ التأثيرات الثقافية للقهوة والمقهى إلى الطقوس والعادات المرتبطة بالممارسة الاجتماعية لاحتساء القهوة، فهو يرى أن عملية احتساء القهوة وما يرافقها من طقوس توفر للناس ذريعة قوية ومشروعة للجلوس وتبادل الحديث، لكنها ذريعة وسبب لا يخضع لقوانين التواصل المحكومة بتراتبية المصالح والقوى الاقتصادية والسياسية، وبمعنى آخر فإن احتساء القهوة يوفر مناسبة غير مؤسساتية للقاء الإنساني في الفضاء الاجتماعي العام. في دراسة هابرماس ''التحولات البنيوية في الفضاء العام'' الصادرة عام 1962 محاولة لتذكير المجتمعات المعاصرة بإرثها الثقافي الذي أدى إلى تطوراتها لاحقاً. في جوهر ذلك الإرث تقع رؤية ثورية تخيلت الأمكنة العامة فضاءات تستوعب تجمعات لمواطنين وأفراد يمارسون النقد والحوار ضد كل أشكال السلطة والمؤسسات، وقد خلق هذا النوع من الالتقاء تحولا في قواعد وآليات التجمع والاتصال بين الأفراد، وهو فعل ثقافي يؤدي إلى تغيرات في الحساسية الثقافية والإبداعية وفي خصائص التعبير عن الذات والجماعة. والمقهى عند هابرماس هو الذي شكل الرمز الذي عبر عن تلك التحولات وهو المكان الذي كان فضاء لإنجازها وممارستها، وإذا كان المؤرخ الثقافي الألماني وولفغانغ شيفلبوس يرد الأثر الثقافي والتحولات الاجتماعية إلى مشروب القهوة، فإن هابرماس يرى أن ذلك يعود إلى خصائص المكان الذي أنتجته القهوة وهو المقهى، أي التطورات، فالمقهى المكان، لا القهوة المادة، هو العنصر الذي لعب دوراً حاسماً في إنتاج الثقافة الحديثة. المقاهي قصص المثقفين المنسية حملت المقاهي في ذاكرتها منذ أوائل عصر النهضة العربي قصص وحكايات المثقفين والمعارضين والنخب السياسية التي كانت تقود المشهد الثقافي والسياسي في ذلك الوقت، فكان المقهى ملاذهم الآمن ومكانهم الدافئ الذي يعبرون فيه عن أفكارهم وآمالهم وطموحاتهم بعيدا عن وهج الرقابة والملاحقة، فقد شكل المقهى في لحظة ما كهفا للفارين من وجه الدولة والتجنيد العسكري، كما حصل في قهوة ''خبيني'' في دمشق، حيث يشير ابن كنان في كتاب ''الحوادث'' إلى أن الاسم أطلق على هذا المكان في القرن الثاني عشر الهجري، وشاع في عهد الاتحاديين، فعندما كانوا يعمدون إلى البحث عن الشباب في دمشق لسوقهم إلى الخدمة العسكرية إبان الحرب العالمية الأولى المعروفة بحرب (السفر برلك)، وكان ضابط مفرزة السوق (الشاويش) يعتمر قبعة طويلة من اللباد, فسمي بذلك عند نزوله بالسوق يبدأ الناس بالصياح (عباية... عباية) فكانت المقهى هي ملاذ الشباب يتوجهون إلى من فيها ويقولون لهم (خبيني) ومن هنا جاءت تسمية القهوة بخبيني، واستمر نشاط المقهى في دمشق وتحولت وظيفته، ففي أواخر الأربعينيات شهدت مقاهي دمشق مرحلة ذهبية من حيث تحولها من مجرد أماكن للتسلية والمتعة والترويح عن النفس إلى أماكن يجتمع فيها السياسيون والمثقفون والصحافيون ونخبة المجتمع الدمشقي، وكان مقهى ''الطاحونة الحمراء'' يكتظ في الصباح بالصحافيين العاملين في ''الأيام'' و''القبس'' والصحف الأخرى إلى جانب عدد من النواب، وفي المساء كان المشهد السياسي أكثر وضوحاً في مقهى ''البرازيل'' حيث يجتمع السياسيون والوزراء السابقون، وعلى الرصيف المقابل ينعكس المشهد ذاته في ''الهافانا'' فيتقاسم الطاولات شباب من أحزاب مختلفة، تعلو أصواتهم بنقاشات الواقع والمستقبل والألم والأمل. ومن مقهى ''ريش'' في القاهرة انطلقت أفكار التحرير وأحلام التحرر السياسي والثقافي على حد سواء، حيث تشير المصادر التاريخية إلى أن في هذا المقهى جلس الضابط جمال عبد الناصر يخطط لثورة تموز (يوليو)، وكتب على إحدى طاولاته الشاعر العراقي عبد الوهاب البياتي كثيرا من أشعاره، وفي الأربعينيات والخمسينيات كان أشهر رواده طه حسين والعقاد ولويس عوض وسليمان نجيب وتوفيق الحكيم، وفي الستينيات كان أشهر رواده إدوارد الخراط ونجيب سرور وجمال الغيطاني والشاعر أحمد فؤاد نجم وأمل دنقل، ولم يكن مرورهم منه عبورا وجلسات عابرة بل كان بمثابة مكان إقامتهم، فإذا أراد شخص مقابلتهم كان عليه أن ينتظرهم هنا، وكتب هؤلاء الكتاب والشعراء كثيرا من كتبهم وأشعارهم عن هذا المقهى، فكان له دوره الثقافي والسياسي وما يدور فيه من مناقشات، منها كتاب نجيب سرور الذي صدر عام 1977 بعنوان ''بروتوكولات حكماء ريش''، وللشاعر أحمد فؤاد نجم قصيدة شهيرة عن المقهى قام بتلحينها وغنائها الشيخ إمام، وقد كانت القاهرة في تلك الأيام تعج بالمقاهي الثقافية، فكان هناك مقهى ''البوستة'' بميدان العتبة بالقاهرة، وكان يعرف بمقهى الأفغاني، نسبة للشيخ جمال الدين الأفغاني الذي اتخذه خلال فترة إقامته بمصر مكانا للقاء تلاميذه والاستماع إلى آرائهم والمشاركة في الحوار، وكان من بين هؤلاء التلاميذ الشيخ محمد عبده، والشاعر محمود سامي البارودي، والسياسي سعد زغلول، وعبد الله النديم المناضل الوطني، وإبراهيم الهلباوي ويعقوب صنوع الذي أدخل فن المسرح إلى مصر. وهناك أيضا مقهى دار الكتب الذي أخذ شهرته من ركن الشاعر أحمد رامي حيث كان أبرز رواد المقهى من موظفي دار الكتاب وكان أحدهم الشاعر أحمد رامي، حيث كان يجلس في زاوية يتبادل فيها الضحكات والكلمات مع أصدقائه، ومن قبله كان الشاعر حافظ إبراهيم يجلس على ذلك المقهى غارقا في كتابة قصائده، وإعادة تبديل بعض مقاطعها وكلماتها، ثم يطلب من الرواد الهدوء التام ليقرأها على أصدقائه. ولم يتوقف سحر مقاهي القاهرة على المصريين فقط بل تعدى ليشمل مثقفي الوطن العربي، ومن الواضح أن هذه الظاهرة صارت معروفة، فقد ألف الأديب التونسي ''رشيد الزواوي'' كتابا بعنوان ''مقاهي الأدباء في الوطن العربي''، حيث يصفها بأنها مكان المجتمع الذي ينشد دائما مصيره بعيدا عن المؤسسات، ويتحدث عنها نجيب محفوظ الشاهد على هذا العصر وأحد أهم صناع تلك الظاهرة والمشاركين فيها. وفي مذكرات محمد كرد علي التي كتبها عن حياته صفحات عن ندوات الأدب في مصر، يحكي فيها عن مقهى ''متانيا'' المواجه لحديقة الأزبكية وسور الكتب المعروف آنذاك بسور الأزبكية، التي كان يلتقي فيها مع من سماهم جماعة دار العلوم كل مساء فيلتقي أحمد السكندري ومحمد الخضري وعبد العزيز شاويش وحفني ناصف ومحمود دياب وحسن منصور ومحمد عبد المطلب وغيرهم من المثقفين، حيث كان يدور الحديث عن مسائل في الدراسات الأدبية واللغوية والتاريخية، ويذكر محمد كرد أن التاريخ الأدبي حافل بالكتابة عما يدور في المقاهي. وفي بغداد ظهرت المقاهي مبكرا، إذ يشير فخري الزبيدي في كتابه ''بغداد أيام زمان'' إلى أن الوالي جغالة زادة سنان باشا فتح أول مقهى في بغداد سنة 995هـ ــ 1586م، ومن مقاهي بغداد مقهى الخفافين، ومقهى الشط، وقهوة القلعة، وقهوة البلابل، ومثلها كثير، وهي تمتاز بروادها من الأدباء والشعراء والمثقفين الذين يجتمعون للتباحث في الشؤون الأدبية والثقافية، فهناك الرواد الأوائل أمثال السياب والجواهري وحسين مردان ومظفر النواب وفؤاد التكرلي وغائب طعمة فرحان وسامي مهدي وحميد المطبعي وغيرهم، حيث كانت مجالسهم ندوات للنقاش في أمور الشعر والأدب والثقافة، وقد تجاوز المقهى البغدادي في بداية القرن العشرين فكرته الأولى أيام العثمانيين، وتحولت وظيفته التثقيفية والاجتماعية، فارتبطت المقاهي بأبرز الأسماء الأدبية في العراق، فقد (كانت بعض المقاهي البغدادية تجمعات ثقافية عامرة ،ففي مقهى الزهاوي مثلاً، كان الزهاوي يكتب سلسلة مقالاته في نقد شعر عباس محمود العقاد، وهي المعارك التي اشتهرت بين الاثنين، وتناقلتها صحف بغداد والقاهرة في الثلاثينيات، وفي هذا المقهى جرت المناقشات بينه وبين الرصافي، التي أدارها أحمد حامد الصراف، وكانت كثيراً ما تنتهي بخروج الرصافي غاضباً ويجلس في مقهى آخر يدعى مقهى (عارف أغا) اتخذه مجلساً يحيط به أنصاره وتلامذته، ومثل ذلك ما كان يفعله الزهاوي في مقهى (أمين) الذي حمل اسمه بعد وفاته عام 1936. وفي لبنان يمثل المقهى حالة استثنائية فهو ليس المكان الذي يحتسي فيه الناس القهوة، بل هو ملجأ لكتّاب وشعراء، وصعاليك ومجانين وسكارى ومهرب من روتين المدينة، ومكان للانطلاق مجدداً للعبث في تفاصيلها. هو مكان يحتوي المدينة بكاملها ومحطة يرتاح فيها المثقفون المتعبون من حالهم، كأنهم فرغوا للتوّ من توضيب المدينة. وقد ارتبطت مقاهي لبنان بشارع الحمراء الذي يمتد على مسافة لا تتعدى الكيلومتر الواحد، مليء بالمقاهي المشهورة التي تستمد استمراريتها من روادها القدامى والجدد، من جيل الحرب وجيل السلم، من الشباب والكهول. أما المقاهي الثقافية في المملكة العربية السعودية فقد وقفت الثقافة الاجتماعية منها موقفين متباينين، فهناك من نظر إليها نظرة ازدراء بسبب ما تقدمه من الشيشة والتدخين الذي كانت بعض الفئات تحرمه، لكن هذه النظرة قابلها ومع مرور الزمن نظرة جديدة، وأخذ المقهى يتشكل ويكتسب وجوداً تدريجياً حين بدأ بالتسامح مع كبار السن في دخوله وانتهى بقبول الجميع، ومن المقاهي الشهيرة في استقبال المثقفين في مدينة جدة مقهى ''الأبراج'' حيث تتوافد إليه مجموعة كبيرة من الأدباء والإعلاميين والرياضيين والفنانين التشكيليين والشعراء الشعبيين، وغدا هذا المقهى ملتقى كثير من الكتاب بالقرب من نادي جدة الأدبي، وهناك مقهى ''الحزام'' ويقع بين مجموعة ورش صناعية يرتاده كتاب شباب، وهناك مقهى ''المها'' الذي يقع في المدينة الصناعية ويرتاده فنانون تشكيليون. وفي عمان كان للمقهى دوره الجديد في الحركة الثقافية، إضافة إلى الدور البارز في الحركة السياسية، حيث شهد مقهى حمدان وسط البلد أول اجتماع للمؤتمر الوطني، وبقيت المقاهي تتبادل الأدوار والأسماء، فلم يكن مؤنس الرزاز سعيدا بانتقاله من مقهى العاصمة إلى مقهى أم كلثوم ثم إلى مقهى عمون في أول شارع السلط، وهناك انتظمت حكايات الأدباء وقصصهم. وتجدر الإشارة إلى أنه لم يجمع مقهى أدباء عمان ومثقفيها مثل مقهى ''الفينيق'' الذي أسسته الإعلامية سعاد الدباح عام 1991 وعاونها في إدارة المقهى الشاعر العراقي المقيم في عمان علي الشلاة. ويبقى المقهى شاهدا على تحولات مجتمع وإبداعات مثقفين وجدوا مكانا يلوذون به حين يريدون التحرر من سلطة المكان وسلطة النص وسلطة الدولة.
إنشرها