عودا على بدء .. الريال والدولار

عندما اشتدت حمّى التضخم العالمي بين عامي 2006 و2007, وبالتحديد في دول الخليج ، تعالت أصوات كثيرة تطالب بإعادة تقييم سعر صرف العملات الخليجية, خصوصاً الريال السعودي أمام الدولار. وبعضهم أيضاً طالب بتغيير الربط من الدولار إلى عملات أخرى كما فعلت الكويت في أيار (مايو) من عام 2007 عندما تحولت إلى الربط بسلة عملات بهدف التخفيف من آثار التضخم. وكان هناك انطباع عام بأن الربط بالدولار هو أحد المسببات الرئيسة للتضخم، ومع ذلك, وحتى عندما تحولت الكويت إلى سلة العملات انخفض التضخم فيها بين عامي 2008 و2009 بمعدل مقارب لمعدل انخفاضه في المملكة خلال الفترة نفسها. هذا لا يعني أن عملة الارتباط لسعر الصرف لا تلعب دوراً في ارتفاع أو انخفاض التضخم، لكن التضخم يجب ألا يكون المحدد الرئيس أو الوحيد لنظام سعر صرف العملة في الدولة.
اختيار نظام سعر الصرف (معوما أو مرتبطا), غطاؤها (الدولار أو اليورو أو سلة عملات) وقيمتها له محددات أخرى كاتجاهات التجارة الخارجية، وتدفقات رأس المال، وطبيعة الإيرادات الحكومية، وقيمة الأصول الخارجية، وأهم من ذلك كله الاستقرار المالي والنقدي. وتحقيق هذا الاستقرار المالي والنقدي لا يتم باتخاذ قرار التغيير بناء على المتغيرات الآنية أو المتغيرات على المدى القصير لأن في ذلك تدميرا لمصداقية البنك المركزي من حيث الالتزام بنظام سعر الصرف على المدى الطويل، وهذا بدوره يؤثر في ثقة المستثمرين وفي تدفقات رأس المال. إضافة إلى ذلك، فإن قياس الفوائد والتكاليف المتعلقة بنظام سعر الصرف يجب أن يؤخذ من جانبي تحقيق الاستقرار المالي والنقدي المطلوب وتحقيق استقرار الأسعار، هذا وذاك، يجب أن يقيم في إطاره الزمني الملائم من بداية الارتباط بالدولار حتى تاريخه، أي خلال أكثر من 23 عاماً من تاريخ الارتباط.
وتغيير سعر الصرف إلى عملة أخرى بالنسبة للمملكة له تكاليف عالية جداً تتجاوز بكثير المنافع التي تجنى نتيجة التحول إلى عملة أخرى, فصادرات المملكة الرئيسة تسعر بالدولار، وتقدير الميزانية الحكومية التي تمثل المحفز الرئيس للنشاط الاقتصادي في المملكة يتم بناءً على سعر النفط المسعر بالدولار، والاحتياطيات المالية للدولة مقيمة بالدولار، فأي تغيير في سعر الصرف سواءً بالتحول إلى عملة أخرى أو بإعادة التقييم سيكون له تكاليف عالية. على سبيل المثال إعادة تقييم سعر صرف الريال سيترتب عليه تراجع كبير في عائدات النفط بالريال السعودي، وهذا سيؤدي إلى تراجع في فاتورة الإنفاق الحكومي بشكل كبير، وسيترتب على ذلك تراجع في الإنفاق على البنية التحتية لحساب الإنفاق الجاري. النتيجة الطبيعية لذلك سيدفعها المواطن في شكل ارتفاع الأسعار بشكل كبير نتيجة زيادة القوة الشرائية، وفي الوقت نفسه خسارة الفرص التي ستتوافر للمواطن لو تم التركيز على الإنفاق الاستثماري كبناء الجامعات والمدارس والتركيز على إصلاح القطاع الصحي الذي يعود على المواطن بالدرجة الأولى.
على الجانب الآخر، كان الارتفاع الذي شهده سعر صرف اليورو خلال عامي 2006 و2007 سبباً في مراهنة بعضهم على أنه سيكون عملة الاحتياط الرئيسة بدل الدولار، ما يوجب التفكير في التحول عن ارتباط الريال بالدولار. اليوم يتراجع اليورو ويرتفع الدولار، وربما يعود الدولار إلى الانخفاض واليورو إلى الارتفاع، المهم ألا يتم القفز إلى الاستنتاجات بناء على اتجاهات سعر الصرف فقط ، لكن يجب النظر إلى عوامل أخرى كالجوانب المؤسسية لكل من اليورو والدولار. البنك المركزي الأوروبي هو الجهة المنوط بها إدارة السياسة النقدية على مستوى منطقة اليورو، والهدف الرئيس له تحقيق استقرار الأسعار. هذا يعني أن البنك المركزي الأوروبي مستعد للتضحية بالتنافسية مقابل استقرار الأسعار، وهذا له جذور تاريخية تعود إلى بداية القرن الـ 20 عندما استعرت حمّى التضخم في ألمانيا. بعبارة أخرى البنك المركزي الأوروبي مستعد لإبقاء سعر صرف اليورو مرتفعاً من خلال زيادة سعر الفائدة في مقابل التحكم في معدلات التضخم، حتى لو أدى ذلك إلى التأثير في تنافسية الصادرات الأوروبية.
في المقابل يهدف «الاحتياطي الفيدرالي» إلى إدارة السياسة النقدية ووضع التشريعات والإشراف على المؤسسات المالية والمصرفية والمحافظة على الاستقرار المالي والنقدي، وهي أهداف تتناسب بشكل كبير مع أهداف مؤسسة النقد العربي السعودي. وهذا الجانب هو أحد الجوانب المهمة، فتناسق السياسة النقدية بين الدولتين (دولة العملة ودولة الغطاء) مهم جداً لتحقيق الاستقرار المالي والنقدي المنشود. وربما يحدث يوماً أن ينفك هذا التناسق بين أهداف السياسة النقدية لكلا البلدين، لكنها حالياً متسقة بشكل يحقق كثيرا من الفوائد للمملكة. الأحداث الأخيرة في أوروبا أبرزت بجلاء أن المراهنة على سيادة اليورو لم يكن صحيحاً، حيث إن البناء المؤسسي لمنطقة اليورو لا يزال هشاً مقارنة بالبناء المؤسسي لمؤسسات «الاحتياطي الفيدرالي» الأمريكية. الاتفاق الصعب الذي أخذ وقتاً طويلاً بين الدول الأعضاء في منطقة اليورو لإنقاذ اليونان أدى إلى إثارة الشكوك حول مصداقية دول منطقة اليورو, وهو ما أدى بشكل كبير إلى التدهور في سعر صرف اليورو وتهديد النظام المالي الأوروبي والعالمي على السواء. في المقابل فإن التحرك السريع من مؤسسة الاحتياطي الفيدرالي لإنقاذ النظام المالي الأمريكي يدلل على النضج المؤسسي في التعامل مع الأزمات, الذي أسهم بشكل كبير في الحد من آثار الأزمة المالية العالمية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي