إثر حادثة 11 أيلول (سبتمبر) عام 2001م، أطلق الرئيس الأمريكي السابق، جورج بوش ما دعي بالحرب على الإرهاب. وأعلن أن هذه الحرب ستتسبب في سقوط كثير من الأنظمة، في مقدمتها،«محور الشر». وحدد هذا المحور في ثلاث دول هي: العراق وإيران وكوريا الشمالية. وكان اللافت في هذا الخطاب، أنه استثنى أفغانستان من هذا المحور، ولعل مرد ذلك هو أن تكون المقاربة دقيقة من حيث العدد بين دول المحور في الحرب العالمية الثانية: ألمانيا وإيطاليا واليابان، ومحور الشر الذي حدده الرئيس بوش.
لم تمض سوى عدة أسابيع، إلا واحتلال أفغانستان قد أنجز، وواصلت القوات الأمريكية التدفق إلى هذا البلد، لتتيه فوق سفوحه وجباله العاتية، وتغرق في مستنقات وديانه. وبدأ التحضير العسكري الأمريكي مباشرة، بعد حوادث أيلول (سبتمبر) لاحتلال العراق، وأنجز مشروع الاحتلال في فترة لم تتجاوز كثيرا العام والنصف، منذ احتلال أفغانستان.
وبقيت كوريا الشمالية وإيران، خارج معادلة الاحتلال حتى يومنا هذا، رغم أن كلتا الدولتين، تتجهان جديا في مشروع حيازة التكنولوجيا النووية. وإذا كانت إيران، تراوغ وتنفي نيتها في امتلاك السلاح النووي، فإن كوريا الشمالية، تعلن نهارا جهارا، عن نيتها في تحقيق ذلك، وتسابق الزمن من أجل إنجاز مشروعها هذا.
قضية الملف النووي الكوري الشمالي، رغم أهميتها، ليست موضوع حديثنا. ويمكن القول إن العجز الأمريكي، تجاه التعامل معها، مرده تعقيدات الموقف، وارتباط الجزء الشمالي من كوريا بتحالفات استراتيجية مع الصين وروسيا، تجعل العبث بسيادة هذا البلد، مسا مباشرا بتلك التحالفات، وتدخل الإدارة الأمريكية في قضايا خلافية وصراع مع دولتين كبريين، لا ترى الولايات المتحدة أسبابا كافية للولوج في صراع مباشر معهما.
الموضوع الذي نهتم به في هذا الحديث، هو إيران التي طرح موضوع طموحاتها لامتلاك التكنولوجيا النووية بعد حوادث أيلول (سبتمبر) مباشرة، ومع ذلك، لم يتعامل الأمريكيون معها، بصدمات الرعب والترهيب التي تعاملوا بها مع أفغانستان والعراق. مع أن أوضاع إيران، تتشابه إلى حد كبير مع البلدين، وبشكل خاص مع العراق، من حيث التنوع الإثني والطائفي والديني.
لقد استمرت لعبة القط والفأر، بين الجانبين، الأمريكي والإيراني دون حسم. تصاعد الإيقاع مرات ومرات، واقتربت الأوضاع من حافة الحرب، ثم تراجع فجأة، ليجري الحديث مجددا عن الحوار والمفاوضات. ثم يعاد من جديد الحديث عن ضغوط وعقوبات تفرض على إيران، في حالة مضيها قدما في تنفيذ طموحاتها النووية. وكانت المحطة الأخيرة، في لعبة القط والفأر صدور القرار رقم 1929 عن مجلس الأمن الدولي الذي تضمن فرض عقوبات جديدة، منعت بموجبه الجمهورية الإسلامية من بناء وحدات جديدة لتخصيب اليورانيوم. كما حرم عليها الاستثمار في الخارج في نشاطات حساسة مثل استخراج اليورانيوم والتخصيب أو النشاطات المتعلقة بالصواريخ الباليستية. وقد حظر القرار على إيران شراء ثماني فئات من الأسلحة الثقيلة كالدبابات والعربات القتالية المصفحة والمدافع من العيار الثقيل والطائرات والمروحيات القتالية والبوارج والصواريخ وأنظمة الصواريخ. وفي تفتيش السفن وسع القرار مجال عمليات التفتيش في عرض البحر لتشمل الحمولات البحرية المشتبه فيها والآتية أو المتوجهة إلى طهران، وقد كان ذلك في السابق محصورا في المرفأ. كما منعت إيران، بموجب القرار، من ممارسة أي نشاط مرتبط بالصواريخ الباليستية القادرة على نقل أسلحة نووية.
والواقع أن القرار الذي تأخر صدوره طويلا، وكان نتاج عمل مكثف من المساومات والمقايضات، جاء في صيغة رفع عتب، رغم النغمة العالية لبنوده. فمعظم المواد التي وردت في القرار، بالإمكان تجاوزها من قبل الإيرانيين. فالقول، على سبيل المثال، بمراقبة المؤسسات المالية التابعة لإيران، أمر تجاوزته طهران منذ سنوات، من خلال حرصها على ألا تدخل في حساباتها مبالغ ذات علاقة بمشتريات مواد أو معدات لاستخدامات نووية.
#2#
وقد أفصحت التصريحات الرسمية التي صدرت عن مسؤولين كبار، في دول مختلفة، بعد إعلان قرار مجلس الأمن، عن عدم فاعليته. فموسكو أعلنت على لسان وزير خارجيتها، سيرغي لافروف أن العقوبات التي تضمنها القرار لن تمنع روسيا من تسليم إيران الصواريخ الروسية من طراز إس- 300. كما أكدت موسكو أن العقوبات لن تمنعها من مواصلة بناء مفاعلات نووية في إيران بدليل ما صرح به أكثر من مسؤول روسي.
أما الصين فقد ضمنت عدم المس بصادراتها إلى إيران ووارداتها منها، بما في ذلك الاستثمارات النفطية والأسلحة الدفاعية وسائر السلع الاستهلاكية الأخرى. والبرازيل وتركيا اعترضتا على القرار، وأوحتا بعدم التزامهما به، والأخيرة دولة مجاورة لإيران، ولها حدود واسعة معها.
سؤال مركزي يطرحه الموقف الأمريكي غير الحاسم في تعامله مع الملف الإيراني: لماذا اتسم هذا الموقف بالتردد والصبر تجاه التعامل مع إيران، في حين كان الموقف الأمريكي حاسما في المسألتين الأفغانية والعراقية.
الإجابة عن هذا السؤال، ستسعفنا بالتأكيد، في تصور السيناريوهات المستقبلية، التي يمكن أن تقدم عليها الإدارة الأمريكية الحالية في تعاطيها مع الملف الإيراني.
وكما في كل مقاربة سياسية، لقضايا صراعية، لا مناص من تقرير موقع البلد المستهدف في خريطة التنافس الإقليمي، وموضعه في معادلات التوازن الدولي، وفي الاستراتيجيات المعلنة للدول الكبرى. فأين نضع موقع إيران، في هذه المقاربة؟ وما علاقة ذلك بالسيناريوهات المحتملة؟
في هذا السياق، نثير حملة من النقاط، ذات العلاقة التي نعتقد وجود ما يشبه الإجماع حولها.
النقطة الأولى، أن إيران شأنها في ذلك شأن العراق، بلد رخو، كان من حسن طالعها أنها مثلت منطقة جيوسياسية، لا يسمح عمالقة القوة بالعبث بها، كونها تشكل منطقة عازلة بين الدب القطبي ومياه الخليج الدافئة. وفي كل المعاهدات والأحلاف التي نشأت في المنطقة، منذ الحرب العالمية الأولى حتى قيام الجمهورية الإسلامية، كانت إيران طرفا فيها، وكان بقاؤها مستقرة ولا يزال، مطلبا غربيا، وأمريكيا بامتياز، لأن ذلك يشكل ضمانة رئيسية تحول دون التسلل الروسي إلى الجنوب. ورغم هذه الميزة، التي حظيت بها إيران، خلال حكم الأسرتين: القاجارية والبهلوية، ثم في ظل الجمهورية الإسلامية، فإن إيران، بتشكلها الجغرافي الحديث، مرشحة دائما لقلاقل مستقبلية، كون مخزونها البشري يضم في أحشائه وفي جنباته، تشكيلات إثنية، ودينية ومذهبية تمثل نسبة لا يستهان بها من تعداد سكانه.
إن اللوحة الفسيفسائية الإيرانية، تجعل وضع هذه البلاد رخوا، وتتيح للقوى الخارجية المعادية استثمار الحلقات النافرة، لتهديد وحدته. فإلى الجنوب الشرقي من إيران هناك منطقة بلوشستان. ومعظم سكانها من البلوش، وهم يمثلون قوة إثنية وطائفية مختلفة، كونهم من أهل السنة. والعمق الثقافي والديني لهؤلاء يمتد واسعا إلى منطقة الخليج العربي، وتتصل شرقا بباكستان، وأفغانستان حيث يرتبط هؤلاء بمجموعات عرقية مماثلة، وبعلاقات تاريخية قديمة مع تلك المجموعات.
في الجنوب الغربي من إيران، تقع منطقة الأحواز التي يطلق عليها الإيرانيون “خوزستان”. وتضم مدنا عربية عريقة، كالأحواز والمحمرة وعبدان والحويزة. وكانت هذه المنطقة تشكل إمارة عربية موحدة، وقعت مع البريطانيين معاهدة حماية، شبيهة بالمعاهدات التي وقعتها مشيخات الخليج، وآخر أمرائها هو الشيخ خزعل الكعبي. وقد تم احتلالها من قبل الفرس عام 1925م، أثناء حكم الشاه رضا خان، والد شاه إيران الذي أطاحت به الثورة. ورغم محاولة الحكومات الإيرانية المختلفة تفريس هذه المنطقة، من خلال طمس اللغة العربية، وتشجيع الاستيطان الفارسي بالمحمرة، فقد تمسك أهلها بهويتهم العربية، وظلوا يطالبون بحقوقهم الثقافية والقومية.
في الشمال الغربي، تقطن الأقلية الكردية، ويقدر تعداد سكانها بما يزيد على سبعة ملايين نسمة، ويشكلون امتدادا تاريخيا وثقافيا لنظرائهم في شمال العراق وجنوب شرقي تركيا. وهناك أيضا التركمان، ويشكلون أقلية قومية لا يستهان بها، ولهم علاقات ثقافية وتاريخية بمركز لغتهم، تركيا. وجميع هؤلاء يحملون صبوات في الانعتاق الذاتي والتحرر الثقافي، والتعبير عن كينونتهم.
يضاف إلى هذا الحضور الإثني المتعدد الألوان، التعدد الديني، فرغم أن الشيعة الإمامية يمثلون الجزء الأكبر من شعوب إيران، إلا أن هناك أقليات من اليهود والمسيحيين والزرادشتيين، والصابئة والبهائيين. وكل يطمح إلى الاعتراف به، وبحقوقه الدينية، فضلا عما أشرنا إليه من وجود مسلمين سنة، ضمن جميع الأقليات القومية، آنفة الذكر: بلوش وعرب وأكراد وتركمان.
كان النفاق الدولي، منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، وحتى يومنا هذا قد تجاهل تماما حقوق الأقليات القومية والدينية والمذهبية في إيران، بينما ركز عليها في العراق.
نحن إذا، إزاء لوحة فسيفسائية، معقدة، من شأنها أن تجعل الخريطة المجتمعية لإيران رجراجة ورخوة، كونها تفتقر إلى وحدة اللغة والتاريخ والثقافة، وتم نسجها بقوة الأمر الواقع. وكان بإمكان الأمريكان استثمار الواقع الإثني والديني، لإضعاف إيران، لكنهم امتنعوا عن ذلك، ولم يستثمروه حتى يومنا هذا، لأسباب ذات علاقة مباشرة، بمعادلات التوازن الدولي.
النقطة الثانية، أن الإدارة الأمريكية، بنت جل حساباتها في احتلال أفغانستان، والعراق على التنسيق مع القيادة الإيرانية. وقد أكد هذا الأمر السيد هاشمي رفسجناني رئيس تشخيص مصلحة النظام، وحميد رضا آصفي الناطق باسم وزارة الخارجية الإيرانية، وعلي لاريجاني رئيس مجلس الشوري، بأنه ما كان بإمكان الولايات المتحدة احتلال أفغانستان والعراق لولا التعاون والتنسيق الأمريكي مع القيادة الإيرانية.
والواقع أن قراءة الخريطة السياسية للقوى التي اصطفت مع الاحتلال تمنح أرجحية لأقوال المسؤولين الإيرانيين. فالاحتلال الأمريكي لأفغانستان بدأ مساره من الجهة الغربية، قريبا من الحدود الإيرانية، من منطقة مزار شريف، متجها شرقا، وكان العمود الفقري للقوى الأفغانية التي ساندت الاحتلال، هم خصوم طالبان، وحلفاء إيران المدعومين بمالها وسلاحها. بالنسبة للعراق، تبدو الصورة أوضح بكثير، فقد جاء “المعارضون العراقيون” من المناطق الكردية في الشمال، ومن الحدود الشرقية مع إيران. وتسللت قوات بدر ومجموعات حزب الدعوة إلى العراق، من إيران مستغلة حالة الحرب. وبدأت مباشرة في الاستيلاء على مقار الدولة العراقية، وجعلتها مكاتب ومقار لها.
ولأن العملية السياسة الأمريكية في العراق، قامت على أسس إثنية وطائفية، كان لا بد من أجل إنجاحها، التنسيق مع إيران وحلفائها. وهكذا تأسس المجلس الانتقالي للحكم، في غالبيته من حلفاء إيران. وجرت الانتخابات فيما بعد، على شاكلة النموذج اليوغسلافي، الذي أريد له أن يكون مستنسخا كربونيا، دون تعديل أو شطب لـ “العراق الديمقراطي الجديد”. ولاحقا تم تشكيل مؤسستي الشرطة، والقوات المسلحة وكانت ميليشيات بدر وقوات حزب الدعوة، هما المخزون البشري الذي مد الأمريكيين بما يحتاجون إليه لتشكيل هاتين المؤسستين، وأيضا لاستحداث مؤسسات الخدمة العامة.
إن مواجهة إيران عسكريا من قبل الأمريكيين، تعني في أبسط أبجدياتها، فشلا شبه مؤكد لمشروع الاحتلال في أفغانستان والعراق. إن ذلك من شأنه أن يبقي القوات الأمريكية رهينة لمصلحة تنفيذ الاستراتيجية الإيرانية. وأنه طالما بقيت القوات الأمريكية في العراق وأفغانستان، فلن يكون بإمكان الأمريكيين الإقدام على اتخاذ أي خطوات عسكرية ضد إيران، لأن ذلك يعني تدمير معبد شمشون على جميع من فيه، وفي القلب منه الجنود الأمريكيون أنفسهم.
إن المواقف الأمريكية تجاه تطورات العملية الانتخابية الأخيرة في العراق، لا تشي باستعداد لممارسة أي ضغط عملي على إيران لإيقاف برنامجها النووي. فأمريكا وقفت متفرجة في الأسابيع المنصرمة، وهي تشهد الضربات تكال لحلفائها. فأي موقف أمريكي متصلب تجاه الملف الإيراني، لن يكون حقيقيا إن لم يقابله تصلب آخر تجاه منع إيران من التدخل في سير العملية السياسية في العراق. فمن غير المعقول أن تقوم الإدارة الأمريكية بضغوط على إيران تصل إلى التهديد بالعمل العسكري، بينما هي تسلم مقادير مصالحها لحلفاء إيران في العراق. إن ذلك يبدو فعلا مستهجنا، خاصة أن هذه الإدارة تملك خيارات سياسية أخرى في العراق، من شأنها الإسهام في إضعاف النفوذ الإيراني. وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن السياسة هي فن الممكن، وأن الحرب هي الأخطر بين الخيارات لتحقيق أي هدف مطلوب، فإن كل ما هو متوافر من معلومات، يشير دون أدنى شك إلى استحالة اللجوء للخيار العسكري الأمريكي، في هذه المرحلة رغم تلويح المسؤولين الأمريكيين به.
ولذلك فإننا لا نتوقع أية مواجهة عسكرية حقيقية لإيران، إلا إذا تم تنفيذ وعد الرئيس الأمريكي، باراك أوباما بالانسحاب من العراق عام 2011. عندها فقط يكون بمقدور الأمريكيين، المبادرة والمناورة، واتخاذ خطوات جدية بحق الملف الإيراني، بما في ذلك استخدام القوة العسكرية.
الخيار الآخر، ألا تستلم الإدارة الأمريكية لمأزق تحالفها القاتل مع الإيرانيين في أفغانستان والعراق، وأن تلجأ للحرب بالوكالة، من خلال تشجيع إسرائيل، على توجيه ضربة جوية للمنشآت النووية الإيرانية، ويكون الدور الأمريكي في هذه الحالة مستترا، ومقتصرا على تقديم الدعم المادي واللوجستي، من تسهيل وتنسيق لعمليات العبور والطيران، وتوفير الصور والمعلومات عن مواقع المفاعلات والمؤسسات النووية. وليكون دور الإدارة الأمريكية اللاحق، ومعها حلفاؤها، والمجتمع الدولي العمل على تهدئة الموقف، والاكتفاء بإصدار بيانات خجولة من البعض تنتقد العملية، وأخرى صاخبة تمارس الشجب والاستنكار، ثم تعود الأمور إلى مجراها الطبيعي بعد أن تكون الإدارة الأمريكية وإسرائيل قد تمكنتا من إنجاز أهدافهما في تدمير طموحات إيران.
لكن مثل هذا الخيار، ينقصه قياس رد الفعل الإيراني، تجاه هذه العملية. هل ستقدم القيادة الإيرانية على ممارسة حقها في الدفاع عن سيادتها، وترد بقوة على الهجوم، مستثمرة كل ما لديها من أوراق، وهي كثيرة، للتصدي للهجمة الإسرائيلية؟ وهل بالإمكان اللجوء إلى سيناريوهات أخرى بديلة؟ وما تأثيرات أية مواجهة عسكرية قادمة على الأوضاع الإقليمية، وبخاصة الأوضاع في منطقة الخليج العربي، وتأثيرات ذلك في الأسواق النفطية؟ أسئلة مهمة، سنعمد إلى مناقشتها والإجابة عنها في الحديث القادم.
