الهبوط السريع في أسعار النفط في بداية أيار (مايو) الماضي أكد وجود تأثير كبير للتقلبات التي تشهدها الأسواق المالية على حركة الأسعار في أسواق النفط العالمية. حيث تراجع سعر نفط غرب تكساس الوسيط بنحو 20 دولارا للبرميل الواحد في هذا الشهر فقط نتيجة المخاوف من احتمال تأثر الأسهم والسندات وأسواق العملات بأزمة الديون اليونانية.
إن الأزمة الحالية لمنطقة اليورو هي استمرار وامتداد للأزمة المالية والاقتصادية التي اجتاحت معظم أنحاء العالم على مدى السنوات الثلاث الماضية. العجز في ميزانية اليونان الذي وصل إلى أكثر من 12 في المائة وأزمة الديون السيادية فيها هدد نظام القارة الأوروبية المالي ووضع الأسواق المالية العالمية في وضع التأهب والتحسب للأسوأ. إن السبب وراء انتشار القلق من تداعيات الأزمة على نطاق واسع في العالم يعود إلى أنه في حالة دخول منطقة اليورو في ركود ربما يضعف الانتعاش الاقتصادي في أماكن أخرى. في خطوة لاستعادة الثقة بالسوق وتحقيق الاستقرار المالي في منطقة اليورو، قدم الاتحاد الأوروبي حزمة إنقاذ بقيمة 750 مليار يورو تشمل توفير سيولة نقدية وقيام الدولة بضمان القروض, وترافق كل هذا ضوابط أكثر صرامة على الإنفاق الوطني. لكن رد فعل الأسواق العالمية لا يزال فاترا تجاه حزمة الإنقاذ هذه، حيث فقد اليورو نحو 20 في المائة من قيمته خلال الأشهر الأخيرة، ونزل إلى أدنى مستوى له في أربع سنوات مقابل الدولار، ويتوقع بعضهم أن يستمر هبوط اليورو لبعض الوقت حيث من غير المستبعد أن يصل إلى المستويات التي كان عليها في أيلول (سبتمبر) 2003.
هذا وتزامن التراجع في أسعار النفط مع انفجار البئر النفطية في خليج المكسيك، مع ذلك لم يكن لوقوع الحادث ولا لأساسيات السوق النفطية من عرض وطلب أي تأثير في وقف انخفاض الأسعار. بدلا من ذلك ارتبط انخفاض الأسعار بسيكولوجية المستثمر في الأسواق العالمية، حيث ازداد مستوى تحوط المستثمر في تعاملات أسواق النفط. أحد آثار الأزمة المالية في منطقة اليورو هو ارتفاع قيمة الدولار الأمريكي بعد انخفاض الثقة باليورو. بالنسبة لأسعار النفط، قوة الدولار بصورة عامة تعني انخفاض أسعار النفط وذلك لأن النفط يتداول بالدولار الأمريكي. لذلك الارتفاع الأخير في العملة الأمريكية كان محركا وراء انخفاض أسعار النفط الخام. لكن بالنسبة لأوروبا ضعف اليورو يمكن أن يزيد من قدرتها على المنافسة في التجارة العالمية. لكن التصدير الموجه نحو الاقتصادات الناشئة ما زال ضعيفا من جراء الركود الاقتصادي الأخير، كما أن أداء اليورو المتواضع يعني الفائدة المتحققة من صادراتهم المرتبطة بالعملة ستكون أقل. ما سيكون عليه مستوى الصادرات الصينية مهم أيضا في حركة الأسواق النفطية. الصادرات الصينية نمت بنحو 30 في المائة في الربع الأول من العام الجاري مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي، لكن التوقعات لاستمرار نمو الصادرات الصينية غير مؤكدة الآن.
على الرغم من أن حل أزمة الديون اليونانية على الأقل تم مؤقتا من خلال صندوق الاستقرار المالي الأوروبي، إلا أن التقلبات في حركة الأسواق يبرز مدى هشاشة الثقة العالمية. المهم في ذلك بالنسبة لأسواق النفط، هو أن تلك الفترة من التقلبات توضح مرة أخرى العوامل التي تحرك أسعار النفط.
العامل الأساسي في حركة أسعار النفط هو درجة ثقة الأسواق بانتعاش الاقتصاد العالمي، وهو أمر مهم بالنسبة لآفاق النفط المستقبلية، حيث تعتمد هذه على توقعات نمو في الطلب على النفط قوي نسبيا. الأسواق الناشئة لا تزال تقود عملية الانتعاش في الاقتصادي العالمي، حيث نمو الطلب على النفط فيها من المتوقع أن يمثل أكثر من 90 في المائة من إجمالي نمو الطلب العالمي على النفط في عام 2010. الصين سيكون لها حصة الأسد من هذا النمو، حيث من المتوقع أن ينمو الناتج المحلي الإجمالي فيها بنحو 10 في المائة عام 2010، مع نمو في الطلب على النفط يقدر بنحو 0.5 مليون برميل يوميا. أما بالنسبة لإجمالي الناتج المحلي للولايات المتحدة من المتوقع أن يزيد على 3.0 في المائة في هذا العام والطلب على النفط من المتوقع أن ينمو بنحو 0.3 مليون برميل في اليوم. مقابل ناتج محلي إجمالي أقل من 1 في المائة في أوروبا، من المتوقع أن ينخفض الطلب على النفط فيها أكثر من 0.4 مليون برميل يوميا عام 2010، بعد أن انخفض بنحو 0.8 مليون برميل يوميا عام 2009.
العنصر الآخر المهم من عناصر التوقعات المستقبلية لأسواق النفط هو سوق الأوراق المالية (الأسهم)، التي شهدت أخيرا انخفاضا حادا بسبب مخاوف بشأن انتعاش الاقتصاد العالمي. أسعار النفط الخام تأثرت بهذا الانخفاض في أسعار الأسهم. حيث انخفض منذ أيار (مايو) مؤشر ستاندرد آند بورز 500 (S&P 500 Index) أكثر من 12 في المائة، وأسعار النفط انخفضت أيضا بنسبة 20 في المائة. الربط بين حركة أسواق الأوراق المالية والنفط يعزى أيضا إلى حد كبير إلى قوة صرف الدولار. إن التقلبات في أسواق العملات والأسهم يمكن أن يكون لها تأثير مباشر وفاعل في حركة أسواق النفط، خصوصا إذا ما بقي النفط سلعة Asset Class استثمارية للمؤسسات المالية. الصدمات المفاجئة التي تتعرض لها الأسواق يمكن أن ينتج عنها حركات سريعة في أسواق النفط حتى لو كانت هذه الصدمات أحدثت تغييرات صغيرة فقط في أساسيات السوق المتمثلة في العرض والطلب.
من جانب الإمدادات النفطية تواجه الصناعة النفطية حاليا فائضا كبيرا جدا في الطاقات الإنتاجية في جميع حلقات الصناعة النفطية: الاستخراجية، التحويلية، الخدمات، الأنابيب، الناقلات البحرية وغيرها. حيث إن الطاقات الإنتاجية الاحتياطية Spare Capacity في منظمة الأقطار المصدرة للنفط «أوبك» ارتفعت بصورة حادة جدا، في عام 2010 إلى نحو 6.5 مليون برميل يوميا. في حين الإمدادات النفطية من المنتجين من خارج منظمة الأقطار المصدرة للنفط من المتوقع أن تزداد بنحو 0.75 مليون برميل يوميا عام 2010. إضافة إلى ذلك، إنتاج دول منظمة أوبك من سوائل الغاز الطبيعي والمكثفات النفطية والسوائل النفطية غير التقليدية من المتوقع أن ينمو أيضا بنحو 0.5 مليون برميل يوميا عام 2010.
أما من ناحية الطلب، فتشير معظم التوقعات إلى أن الطلب على النفط سينمو بين 1.0 و1.5 مليون برميل يوميا هذا العام أي نحو 1.25 مليون برميل يوميا في المتوسط. النمو المتوقع في 2010 في إنتاج الدول من خارج ''أوبك'' وإنتاج دول منظمة أوبك من السوائل النفطية عدا النفط الخام سيغطي تقريبا جميع النمو المتوقع في الطلب العالمي على النفط للعام الحالي. إن هذه الصورة من العرض والطلب من المتوقع أن تؤدي إلى نمو متواضع في المخزون الكلي للمنتجات والنفط الخام في عام 2010، وهذا يمثل عامل ضغط على أسعار النفط. إن ارتفاع مستويات المخزون ووجود كثير من الركود والطاقات الفائضة في قطاع الإنتاج والتكرير، سوف يخفف من احتمالية ارتفاع الأسعار أكثر من 100 دولار للبرميل هذا العام.. حيث من المتوقع أن يبلغ متوسط سعر خام غرب تكساس الوسيط قرب 75 دولارا للبرميل الواحد في عام 2010.
الانخفاض الأخير في أسعار نفط خام غرب تكساس الوسيط إلى 68 دولارا يبين متانة العلاقة في المدى القصير بين حركة أسواق النفط والتوقعات بخصوص تعافي الاقتصاد العالمي، إذ على الرغم من تراجع الأسعار في الأسواق الآنية، على المدى الطويل، العقود الآجلة لخمس سنوات إلى الأمام، ظلت مرتفعة، ما يوحي بأن توقعات السوق بخصوص تكاليف الإمدادات الجديدة ستبقى مرتفعة، خصوصا المشاريع الهامشية الأكثر تكلفة marginal cost projects. حيث وضعت هذه المشاريع أرضية لأسعار النفط، هبوط الأسعار دونها سيخل بالتوازن بين العرض والطلب لمصلحة الطلب وتعود الأسعار إلى الارتفاع من جديد.
على الرغم من أن هذه التوقعات على المدى الطويل ربما توفر بعض الدعم لأسعار النفط، إلا أنه دون انتعاش الاقتصاد العالمي ونمو الطلب على النفط، الأسواق الآنية للنفط ستنخفض أكثر آخذة أسعار العقود الآجلة إلى أسفل أيضا. إن حالة عدم اليقين بشأن الانتعاش الاقتصادي تلقي بظلالها على توقعات نمو الطلب على النفط. لكن، كما أسلفنا، جميع التوقعات الحالية تشير إلى أن الطلب على النفط سينمو بنحو 1.25 مليون برميل يوميا في المتوسط عام 2010. لذلك من غير المتوقع أن تنخفض أسعار النفط الآنية أكثر من دون حدوث تغير ملموس في التوقعات على المدى الطويل.
تنويه: المقال يعبر عن رأي الكاتب الشخصي وليس بالضرورة أن يمثل رأي الجهة التي يعمل فيها.
