الاستشارات الوطنية والتوجه نحو اقتصاد المعرفة
يمثل التوجه إلى اقتصاد المعرفة فهماً عميقاً لدور المعرفة ووظيفة رأس المال البشري في التنمية الاقتصادية، في وقت أضحت الصناعة المعرفية فيه أكثر تأثيراً في الحياة بين العوامل الأخرى المادية والطبيعية، ولا سيما بعد أن صارت المعرفة مورداً اقتصادياً أساسياً انتقل بالعديد من الاقتصادات إلى مستويات لم تكن متوقعة من حيث درجة النمو والسرعة، بفضل التحول إلى سياسة جديدة في الإتقان تركز على زيادة الدعم على المعرفة وتنمية منتجاتها.
ويعد العمل الاستشاري في كافة مجالاته أحد الروافد المهمة في اقتصاد المعرفة، لدوره في خلق البيئة المهيأة لتقديم الحلول العلمية والعملية للمشكلات والتحديات التي تواجه الدول والمؤسسات، وتحديد التوجهات، وصياغة الخطط والاستراتيجيات، واختيار التقنيات، ووضع ومراجعة التصميمات، وتقديم المشورة الفنية أثناء الإنتاج، ووضع المعايير، واختيار الشركاء، وإجراء الدراسات والمسوح الميدانية والتسويقية، وغير ذلك من الحلقات المهمة في دوائر الاقتصاد المعرفي التي تضم قائمة عريضة من الخدمات الاستشارية، إلى الحد الذي يرى فيه الخبراء أن عدم التقيد بمبدأ الاستعانة بالخبرة الاستشارية كان سببا في انهيار عديد من المشروعات، والاستراتيجيات.
وقد قدمت الشركات الاستشارية دوراً مهماً في بناء اقتصاد عديد من دول العالم التي حققت معدلات نمو متسارعة، وانتقلت تلك الشركات إلى العالمية بفضل مهنيتها وقدرتها الكبيرة على المنافسة حتى صارت لها فروع في عدد كبير من دول العالم، بلغ في بعضها ما يزيد على 140 فرعاً، وبكادر وظيفي يتجاوز 140 ألف موظف، وبعائد سنوي تخطى 22 مليار دولار، الأمر الذي أسس لها مكانة ووضعاً تنافسياً مميزاً في مجتمعي الاستشارات المحلي والعالمي أيضاً.
وعلى المستوى المحلي، يدرك كثيرون أن البيئة الداخلية للعمل الاستشاري يعتريها شيء من الضعف لأسباب تتعلق بمعايير وضوابط المهنة، وبعض شروط الترخيص، والتمويل. إضافة إلى ذلك، فإن كثيرا من المستشارين المحليين المتميزين يحجمون عن المبادرة إلى عمل استشاري وطني، بسبب عدم ثقة سوق الاستشارات المحلية بهم من جهة، وتدنِّي مستوى الخدمات والأداء الاستشاري المقدم من بعض الجهات العاملة في هذا المجال من جهة أخرى، هذا بالرغم من أن كثيرا من هؤلاء المستشارين لديهم قدر عال من الخبرات المتميزة، وسبق لعدد منهم العمل في مؤسسات استشارية دولية، سواء في داخل المملكة أو خارجها، واستطاعوا إثبات جدارتهم وكفاءتهم في الأعمال التي شاركوا فيها. وفي حال مشاركتهم في الأعمال الاستشارية المحلية فإنه لا يتم تقديرهم مادياً ومعنوياً بالدرجة التي يستحقونها مقارنة بنظرائهم من المستشارين الدوليين.
إن ضعف البيئة الاستشارية الوطنية يسبب خسائر تتلخص في ثلاث صور: الأولى، هجرة الخبرة الوطنية داخلياً وخارجياً إلى شركات الاستشارات العالمية، والثانية سيطرة الشركات القوية واستحواذها على سوق الاستشارات الوطنية، والثالثة تعاقد الدولة ومؤسساتها مع مكاتب وشركات استشارية محلية لا تقدم سوى تقارير جوفاء تفتقر إلى العمق ووضوح الرؤية وقراءة المستقبل.
ومع التوجه الحكومي الاستراتيجي نحو اقتصاد المعرفة الذي توج بحجم الإنفاق المخصص للتعليم وتنمية المعارف في ميزانية العام الأخير 1431/1432، البالغ 137.6 مليار ريال يمثل ما يزيد على 26 في المائة من حجم الإنفاق العام المخطط للعام نفسه، فإن المأمول أن يشهد العمل الاستشاري الوطني اهتماماً ورعاية على كافة الأصعدة، بوصفه رافداً مهماً ومؤثراً في دعم هذا التوجه. الأمر الذي يضاعف الطموحات، ويطلق الفعاليات نحو إحداث نقلة نوعية في قطاع الاستشارات الوطني وترشيد مساره ودعم قدراته، بهدف الارتقاء بمستواه الفني والعلمي والتنظيمي، وربطه بالحركة الاستشارية العالمية، ليكون قادراً على المنافسة في السوقين المحلية والخارجية أيضاً.
لقد أدرك عديد من الجهات أهمية العمل الاستشاري، وضرورة رعايته، وحمايته من المنافسة الضارة، وصيانة مصالح أطرافه، وتنمية نشاطه المهني، وخلق التعاون المناسب فيما بينها. ومما لا شك فيه أن الجامعات الوطنية أدت ولا تزال دوراً ملحوظاً في مجال العمل الاستشاري الوطني، ومن ذلك تأسيسها معاهد البحوث والدراسات الاستشارية وبيوت ومكاتب الخبرة لمنسوبيها من الأكاديميين انطلاقاً من مبدأ تعزيز الشراكة الاستراتيجية بين الجامعة وشرائح المجتمع كافة، وتطوير الكفاءات المهنية لمنسوبي الجامعة، وتوظيف إمكانات الجامعة لتحويل المعرفة والخبرة إلى مشروعات اقتصادية، وقد استطاعت هذه البيوت أن ترفد البيئة الاستشارية بخبرات، وطاقات علمية وفنية كبيرة، وأن تؤكد الثقة بالخبرة الاستشارية الوطنية.
إن دور الجامعات السعودية – ولا سيما الجامعات الكبيرة مثل جامعة الملك سعود، وجامعة الملك عبد العزيز، وجامعة الملك فهد للبترول والمعادن - محوري في قيادة الاقتصاد السعودي نحو اقتصاد المعرفة. ويمثل أساتذة الجامعات نقطة ارتكاز في تطوير العمل الاستشاري الوطني، وخاصة أن الحكومة استثمرت في تطوير خبراتهم ومعارفهم من خلال إلحاقهم بأعرق الجامعات العالمية.
لقد استطاعت مؤسسات حكومية وخاصة استقطاب الخبراء المتخصصين من أساتذة الجامعات السعودية وغيرهم للمشاركة في التطوير المؤسسي والإداري فيها، ولكنه نجاح محدود الأثر - في ظني - لأنه مقتصر على أفراد وليس مجموعات. وأعتقد أنه آن الأوان لنجاح من نوع آخر لإحداث نقله نوعية في تطوير العمل المؤسسي في ظل تحديات التحول لاقتصاد المعرفة، ويتمثل ذلك في الاستعانة بمجموعة من الخبراء المحليين على شكل أعمال استشارية وطنية منظمة بعقود تشمل خبراء محليين من تخصصات مختلفة، مع إمكانية الاستعانة بخبراء أجانب في بعض المجالات التخصصية الدقيقة، إن لزم الأمر، لكن دون أن نسلّم للخبراء الأجانب (الجمل بما حمل).