مشاهدات من «سيتي سكيب» جدة
أزمة الإسكان في المملكة سيطرت على محاور النقاش في مؤتمر سيتي سكيب جدة, الذي عقد الأسبوع الماضي, وتناولت جلساته هذا الموضوع من جوانب مختلفة, منها ما يتعلق بالحديث عن عمق الأزمة وجذورها, ومنها ما يتعلق بالتمويل وحلوله للمطورين والمشترين, ودور أنظمة الرهن والتمويل العقاري المنتظرة في إنعاش الحل, ومنها ما يتعلق بقضايا توفير الأراضي والبنية التحتية ودور المطورين في توفير الوحدات السكنية, علاوة على كثير من المحاور الأخرى ذات العلاقة. وفي الحقيقة فإن هذا الأمر يدل على ملامسة منظمي المؤتمر أهمية المشكلة, وحسن استغلالهم هذا الأمر لحشد الحضور للمؤتمر, وهو الحضور الذي طغى على ما شهدته في كثير من المؤتمرات الأخرى التي شهدتها المملكة في الفترة الأخيرة, على الرغم من ارتفاع تكلفة التسجيل لحضور هذا المؤتمر. وربما يكون أكثر ما يميز هذا المؤتمر هو مستوى المتحدثين الذين يستقطبهم المنظمون, علاوة على جودة التنظيم واحترافيته اللتين تنقصان كثيرين من منظمي المؤتمرات المحلية الأخرى. لقد شهدت جلسات المؤتمر مناخا مملوءا بالشفافية والواقعية والجرأة في الطرح, وعمد المتحدثون إلى تحليل واقع قضية الإسكان في المملكة من مختلف الجوانب, وطرح كثير من الحلول التي تتطلبها معالجة هذا الواقع. لكن الأمر المشترك بين هذا المؤتمر وغيره من المؤتمرات المشابهة في المملكة هو الغياب التام للقطاع الحكومي, سواء على مسرح المتحدثين أو على مقاعد الحضور. هذا الغياب غير المفهوم يفقد مثل هذا الحوار فاعليته, ويعطل مشاركة أحد أهم القطاعات ذات العلاقة بصياغة الحلول, ناهيك عن التعرف على وجهات النظر المطروحة من بقية الأطراف, أو الاستفادة من خبرات المتحدثين الذين استقطبهم المنظمون من أرجاء العالم كافة. إن حل المشكلات التي تعترض قضايا التنمية, ومنها قضية الإسكان الشائكة, يتطلب بالضرورة تفعيل مشاركة القطاعات ذات العلاقة كافة, وتبني ثقافة الحوار التي أسس ودعا إليها قائد المسيرة ـ حفظه الله ـ وزرع مناخ الثقة المتبادلة بين القطاعين العام والخاص, عوضا عن مناخ التشكيك المسبق والاتهامات المتبادلة الذي يسيطر على مناخ التعامل بينهما في الوقت الراهن. يجب أن تكون الثقة أساسا في التعامل والتعاطي مع مواقف ومبادرات الأطراف كافة, فلا أحد يشكك في وطنية أي منهم, ولا في صدق نياتهم لحل المشكلات التي يقفون أمامها ويتعاملون معها, لكن يجب أيضا ألا يعمل كل منهم بمعزل عن الآخر, وألا يعيش كل منهم في جزيرة منفصلة عن باقي الجزر, ولا بد من مد الجسور بين هذه الجزر, لتحقيق التواصل والتفاعل للوصول إلى الأهداف المشتركة في معالجة قضايا التنمية وتحقيق الازدهار لهذا الوطن.
أعرج في جانب آخر على الحديث عن المعرض الذي صاحب أنشطة المؤتمر, ولن أتحدث هنا عن احترافية التنظيم التي لاحظها الجميع, ولا عن الإقبال الكبير من الزوار الذي شهدته أروقة المعرض على كبر مساحته وتعدد العارضين فيه, لكنني سأتحدث عن جانب آخر لاحظته أثناء تجولي في المعرض, وهو جانب التباين الكبير بين الشكل والمحتوى. فقد ضمت أروقة المعرض أجنحة لعديد من الشركات التي أبدعت واجتهدت في تصميم أجنحتها وبنائها بكثير من التكلف والاهتمام والإبهار. لكن المحتوى الذي قدمه العارضون في تلك الأجنحة لم يرق إلى حد الاهتمام الذي توحي به تلك الأجنحة, ولم يتخط ذلك المحتوى في كثير من الحالات حد التعريف بالشركات العارضة وأنشطتها وخدماتها, دون أن يتضمن ذلك المحتوى أي حلول حقيقية لما يشهده قطاع الإسكان على وجه الخصوص من مشكلات. أحد الأمثلة على هذا التباين هو مقدار التكلف في أجنحة بعض الشركات التي قدمت نفسها على أنها تعمل لتوفير المسكن الميسر في إطار المساهمة في حل مشكلة الإسكان, وهو ما يخلق لدى الزائرين كثيرا من علامات الاستفهام حول انعكاس مقدار هذا التكلف في وسائل العرض والحملات الإعلانية والدعائية على تكلفة المساكن التي يقدمها هؤلاء المطورون في النهاية. إن المبالغة التي تشهدها المعارض والصحف والمجلات ووسائل الإعلام والترويج الأخرى من قبل المطورين أصبحت مبالغة ممجوجة, خاصة أن أيا من تلك الحملات لم يخرج إلى الناس بعدُ بحلول عملية على أرض الواقع, فلا مساكن ميسرة تشفي غليل جيوش المتعطشين, ولا حلول تمويلية تمكنهم من تحقيق أحلامهم, ولا مبادرات حقيقية تقدم حلولا شاملة لهم, وتعالج تخبطهم في مسارات البحث والتنقيب عن المساكن الملائمة. إن قضية توفير المساكن الميسرة للمواطنين تتطلب معالجة اقتصادية واعية, يكون أحد أهم أركانها معالجة الهدر الذي تشهده عملية التطوير والبناء, بما في ذلك الهدر الكبير الذي يتم من خلال هذه الحملات الإعلامية والدعائية المكلفة, ويتم تحميله في النهاية على المستهلك المسكين, خاصة إذا تذكرنا أن قضية المسكن الميسر هي قضية تهم كل مواطن, ولا أعتقد أن هذا المنتج, إن توافر بقيمة ملائمة توافق قدرات الراغبين, يحتاج إلى إعلان أو دعاية, بل سيتقاطر عليه الناس, ويتناقلون أخبار توافره لدى هذه الشركة أو تلك .. فهل رأيتم مخبزا يعلن توافر الخبز لديه؟