إذا نظرنا إلى كراسات العقود ووثائق المنافسة التي تحتوي على الشروط والمواصفات والتصاميم الهندسية, وهذه عادةً ما يشوبها قلة التمحيص والتدقيق من قبل المتخصصين في العقود. وهذا المتخصص ربما لا يكون ملماً إلماماً تاماً بالعقود وطريقة اتساقها وتناسقها بحيث لا تتناقض مع بنود العقد.
كشف رئيس ديوان المراقبة العامة عن عشرة أسباب أعاقت تنفيذ مشاريع حكومية، موضحا أن أبرز الأسباب في عدم توافر الأراضي، وضعف الاعتمادات المالية، والعقود من الباطن، محذرا من أن ملف المشاريع المتعثرة بدأ يزداد. هذا ما نقلته بعض الصحف المحلية في الأسبوع الماضي. وأود أن أسهم من واقع خبرتي العملية، وليس تعقيباً أو رداً على ما قاله رئيس ديوان المراقبة العامة.
إن الأخطاء متراكمة منذ الأزل, فمثال على ذلك نظام المشتريات الحكومية ونظام تصنيف المقاولين الذي يستغرق ستة أشهر. ففي هذه المدة يتغير كثير في وضع طالب التصنيف, علماً أن هذا التصنيف عبارة عن تأهيل مبدئي من النواحي الفنية والمالية والإدارية. بينما يتم في أقل من شهر في بعض الشركات مثل ''أرامكو السعودية''. ولذلك يجب إعادة النظر في التصنيف بما يتماشى مع متطلبات السوق. فقد يتغير وضع الشركة المالي من حيث السيولة والتدفقات النقدية التي يتطلبها المقاول للقيام بالتجهيزات الأساسية وتحريك المعدات والأدوات والأيدي العاملة لتنفيذ المشروع، والوضع الفني، الذي هو عبارة عن طاقم إداري، عمالة مدربة ومعدات. فكل من الطاقم الإداري والعمالة المدربة المطلوبة للقيام بتنفيذ المشروع يمكن ألا تتوافر عند إكمال التصنيف. ليس من المعقول أن يحتفظ المقاول بالطاقم الإداري وبالعمالة المدربة لمدة ستة أشهر دون عمل حتى يتمكن من الحصول علي التصنيف. وكما ذكرت، هذا التصنيف ما هو إلا تأهيل مبدئي, وهو مختلف اختلافاً كلياً عن التأهيل الذي يتم عند تقديم العطاءات. أما المشتريات الحكومية ربما تعوق التنفيذ الأمثل للمشروع, لأن هذا النظام يحدد الإطار العام الذي تتمكن الجهة الطالبة للمشروع من خلاله الحصول على خدمات من الآخرين، التي تشمل التصاميم أو التشغيل للمشاريع. وهذا النظام يحدد الصلاحيات وأسلوب التعاقد والجزاءات التي عادةً ما تكون جامدة وغير مرنة. وجرت العادة على إسناد وضع التصاميم والمواصفات إلى مكاتب هندسية، ومعظم مكاتبنا الهندسية التي تصمم المشاريع وتقوم بالإشراف على التنفيذ لا تملك المقومات الحرفية لإدارة المشاريع. لأن إدارة المشاريع، نوع من الإدارة المتخصصة التي تتطلَب فرق عمل متكاملة من مديري مشاريع، مهندسين، محاسبين ومقدري تكاليف وغيرهم, ونظراؤهم الذين يمثلون الجهة المتعاقدة قد تنقصهم الخبرة ويشوبهم قلة الحزم والتراخي في إدارة المشروع وأخذ الإجراءات النظامية المنصوص عادة عليها في العقد ضد أي تقصير من المقاول أو حتى المشرف, وربما يكون هذا التراخي ناتجا عن قلة معرفة أو لشيء في نفس يعقوب.
وإذا نظرنا إلى كراسات العقود ووثائق المنافسة التي تحتوي على الشروط والمواصفات والتصاميم الهندسية, وهذه عادةً ما يشوبها قلة التمحيص والتدقيق من قبل المتخصصين في العقود. وهذا المتخصص ربما لا يكون ملماً إلماماً تاماً بالعقود وطريقة اتساقها وتناسقها بحيث لا تتناقض مع بنود العقد. وهذه الوثائق يجب أن تكون منسجمة بعضها مع بعض, فملحق الأسعار يجب أن يكون مرتبطا ومتسقا مع ملحق نطاق العمل والمواصفات والشروط, وكذلك نماذج العطاءات من المفروض أن تكون منسجمة مع متطلبات العقد وشروطه العامة والخاصة والأسعار وغير ذلك. يجب، أيضاً، الإلمام بالأنظمة المالية ليس من ناحية تقدير التكاليف بل من ناحية ملاءمة بنود العقد بعضها مع بعض، وهذه الأنظمة المالية ربما تؤثر في طريقة إعداد العقد أو الأسعار أو الشروط المالية التي تشمل التعويض, الدفع, التسعير, أو الجزاءات والغرامات. وكذلك النواحي القانونية التي تغفل، أحياناً، بعض المواد التي لا تضيف أي قيمة مضافة إلى المشروع لكنها تضع أعباء مالية أو لا تكون قابلة للتنفيذ, علماً أن عملية المشاريع الإنشائية والتعميرية يغلب عليها الطابع الفني الذي يصاحب المشروع عند تصميمه وإنشائه. ولذلك تأخذ العملية الإدارية طريقها إلى المشروع, حيث تنقله من مرحلة إلى أخرى, وذلك بتطبيق المفاهيم الإدارية في جميع مراحل المشروع. فمن هنا يبرز الجانب القانوني الذي يتم فيه ومن خلاله ربط العملية الإدارية بالعملية الهندسية كي يسير المشروع إلى بر الأمان. لذلك يجب على كل من يعمل أن يدرك ويلم بالنواحي القانونية والأنظمة ذات التأثير المباشر في المشروع، وهذا عادةً ما يكون مغفلا من جانب بعضهم.
أما إذا نظرنا إلى التعاقد من الباطن، فلقد أسيء فهمه, فالسائد هو أن تبيع الشركة الفائزة بالعقد إلى شركة أخرى، والأخرى إلى غيرها، وهذا ما يؤزم الوضع عند الجهات المتعاقدة. يجب تصحيح هذا المفهوم وتوضيحه بأسلوب لا لبس فيه, فالتعاقد من الباطن هو إسناد بعض الأعمال إلى مقاولين مؤهلين مثل تأهيل المقاول الرئيس، بحيث لا يسند أكثر من 30 في المائة من المشروع إلى المقاول من الباطن، وأن يلتزم المقاول الرئيس بضمان التنفيذ وحسن الأداء من المقاول من الباطن، وهو من يدفع له قيمة عمله الذي أنجزه وليس الجهة المتعاقدة.
هذا, ليس إلا موجزاً لبعض جوانب سوء إعداد وترسية عقود المشاريع في القطاع العام وشركاته ومؤسساته، والله من وراء القصد. وسأتبعه بمقالةً أخرى لتفصيل بعض الأمور.
