في بعض الأحيان يطلق الأمريكيون (وبعض الآسيويين) اسم «يورولاند» على منطقة اليورو. ونظراً للتشابه في اللفظ بين «يورولاند» و»ديزني لاند»، موطن الخيال والأساطير، فمن الواضح أن المقصود من هذه التسمية السخرية وليس التدليل.
فمنذ اقتُرِحَت فكرة إنشاء اليورو ظل المتشككون (وأغلبيتهم من الأمريكيين) والمؤيدون (وأغلبيتهم من الأوروبيين) منهمكين في نقاش حاد حول الشروط الاقتصادية اللازم توافرها في العملة المشتركة، وحول الفوائد التي تجلبها على البلدان الأعضاء، وجدواها السياسية. وكان خبراء الاقتصاد الآسيويين الذين يروجون للتكامل الإقليمي في آسيا يتابعون المناقشة باستغراب، ذلك أن نقطة الخلاف بين الطرفين لم تكن قائمة على فلسفة اقتصادية مثل «أنصار جون ماينارد كينز في مواجهة الكلاسيكيين الجدد» أو «الليبراليين في مواجهة المحافظين»، بل كانت قائمة على انقسام جغرافي بين ضفتي الأطلسي.
ولقد زعم خبراء الاقتصاد الأمريكيين تحت زعامة مارتن فيلدشتاين أن الاقتصاد في بلدان منطقة اليورو يتسم بالتنوع الشديد وجمود سوق العمالة, وأنه حافل بعديد من الاختلافات المؤسسية إلى الحد الذي يجعله عاجزاً عن تشكيل منطقة عملة مثالية. فضلاً عن ذلك فإن السياسة النقدية الموحدة محكوم عليها بالفشل إذا ما اجتمعت بسياسة مالية مستقلة: فالأولى تؤدي إلى زيادة معدلات البطالة في البلدان ذات الاقتصاد الأضعف، وذلك لأن سعر الفائدة يعكس متوسط مؤشرات منطقة اليورو (مع وقوع العبء الأضخم على ألمانيا وفرنسا)، لكنها في الوقت نفسه تعمل على إبقاء تكاليف الاقتراض منخفضة إلى الحد الذي يسمح لحكومات البلدان ذات الاقتصاد الضعيف بتمويل إسرافها المالي.
ويصر المؤيدون في أوروبا على أن العملة الموحدة مؤسسة حقاً على الإرادة السياسية القوية الراغبة في ضمان السلام الدائم في أوروبا. وحتى لو لم تفِ منطقة اليورو بالشروط الاقتصادية الضرورية في البداية، فمن المؤكد أن المتغيرات الاقتصادية ستتقارب في وقت لاحق. ذلك أن البلدان ذات الدخول المتوسطة والبلدان ذات الأسعار/الأجور المتدنية ستنمو بشكل أسرع وبمعدلات تضخم أعلى. وسيعمل ميثاق النمو والاستقرار على حماية الانضباط المالي.
وأثناء السنوات العشر الأولى المزدهرة من عمر اليورو بدا الأمر وكأن المؤيدين الأوروبيين خرجوا من المناقشة مظفرين. فقد سجلت بلدان منطقة اليورو معدلات نمو مرتفعة إلى حد معقول، كما تقاربت أنصبة الأفراد في الدخول ومستويات الأسعار، وضاقت الفوارق بين أسعار الفائدة، مع حدوث اضطرابات طفيفة أحياناً في الأسواق. وانضم عدد كبير من البلدان بنجاح إلى منطقة اليورو بعد تنفيذ الإصلاحات الضريبية والنقدية المطلوبة. وهناك مزيد من البلدان التي تنتظر الانضمام. وأصبح اليورو العملة الرئيسة الثانية في عالم التمويل الدولي.لقد شاهد الآسيويون أزمة اليونان الناتجة عن اليورو الذي كان مظفراً فيما سبق بمشاعر مكبوتة من التبرير والتبرئة. في عام 1977 اعتقد عديد من الآسيويين أن هجمات المضاربة التي شُنَّت على العملات الآسيوية في ذلك الوقت كانت غير مبررة، وتولى رئيس الوزراء الماليزي مهاتير محمد آنذاك قيادة المواجهة ضد المضاربين.
وفي استجابة لهذه الأزمة، سعى الآسيويون إلى تأسيس صندوق نقد آسيوي لمساعدة أي بلد تضربه الأزمة من خلال تزويده بمساعدات ضخمة من السيولة النقدية. وكان إعلان تأسيس الصندوق يهدف إلى ردع هجمات المضاربة. لكن صندوق النقد الدولي والولايات المتحدة رفضا الفكرة. والآن يعمل الأوروبيون على تأسيس صندوق نقد أوروبي بالتعاون مع صندوق النقد الدولي.
لكن الإعلان عن برنامج صندوق النقد الدولي (إلى جانب المساعدات الثنائية الإقليمية) لم يكن السبب وراء تهدئة الأسواق في كوريا الجنوبية وإندونيسيا في عام 1997. وفي النهاية تم إنقاذ كوريا الجنوبية من خلال إعادة تمويل إقراض البنوك الأجنبية بشكل قسري منسق (لماذا لا نجرب الفكرة نفسها مع اليونان؟)، غير أن إندونيسيا شهدت انهياراً مالياً، لأن البلاد عجزت عن الوفاء بكثير من شروط صندوق النقد الدولي. (امتنع صندوق النقد الدولي في هيئته الجديدة اللطيفة عن فرض مثل هذه الشروط القاسية على اليونان).
هناك اختلافان واضحان بين أزمة آسيا عام 1997 والأزمة اليونانية اليوم. ويتعلق الاختلاف الأول بكينونة الجهة المقترضة للمال. ففي حالة اليونان ترتبط المشكلة بالعجز السيادي (وكانت أغلبية هذا العجز مخفية لمدة طويلة)، في حين كانت المشكلة في آسيا مرتبطة بديون القطاع الخاص غير الخاضعة للمراقبة.
والاختلاف الثاني يتعلق بنظام سعر الصرف, فقد عمدت الولايات المتحدة وصندوق النقد الدولي، وغيرهما، إلى تشجيع البلدان الآسيوية على زيادة مرونة أسعار الصرف. وعلى هذا فقد ساعد انخفاض قيمة عملات هذه البلدان في أعقاب الأزمة على التعجيل بالتعافي من خلال تعزيز الصادرات.
لكن ما دام خفض قيمة العملة يشكل أداة رئيسة لهندسة التعافي الاقتصادي السريع فلماذا لا ندعو اليونان إلى الخروج من منطقة اليورو؟ من المؤكد أنها باستمرارها في عضوية منطقة اليورو لن تسنح لها فرصة التعافي السريع القائم على تعزيز صادراتها نتيجة لانخفاض قيمة عملتها. والسبيل الوحيد الآخر المتاح لخفض القيمة الحقيقية يتلخص في إحداث انكماش هائل في الأسعار المحلية، مقترناً بركود حاد.
فضلاً عن ذلك فإن المشكلات البنيوية كافة التي تعانيها اليونان ـ القاعدة الضريبية الهزيلة، والأعداد الضخمة من الموظفين الحكوميين الذين يحصلون على مكافآت هائلة، وفوائد التقاعد السخية ـ لا يمكن التعامل معها في داخل منطقة اليورو. بيد أن حل أي من هذه المشكلات سيكون بالغ الصعوبة، وإذا لم تُحَل هذه المشكلات في اليونان وغيرها من بلدان منطقة اليورو المتعثرة، فإن هذه البلدان الأخرى ستسلك المسار نفسه. وحتى صندوق النقد الأوروبي قد لا يكون كافياً لإنقاذ ما يمكن إنقاذه آنذاك، وذلك لأن البلدان التي تلعب دور المنقذ الآن ستتحول إلى بلدان في حاجة إلى من ينقذها.
إن أي أزمة مالية تبدو كأنها أزمة سيولة في نظر هؤلاء الواقعين في خضمها ـ أو القريبين منها. لكن الأزمة ذاتها تبدو أزمة مرتبطة بالقدرة على سداد الديون في نظر الأطراف البعيدة جغرافياً عن الأزمة. وتتكرر الأزمات في مناطق مختلفة، فتندلع بفعل آليات اقتصادية ومالية متماثلة إلى حد مذهل، على الرغم من اختلاف تفاصيل مسار كل أزمة. وكما كتبت كارمن راينهارت وكينيث روجوف فإن كل من يجد نفسه بالقرب من أزمة مالية يتصور أن «هذه المرة مختلفة».
بيد أن تطور الأزمة اليونانية يختلف عن الأزمة الآسيوية, فالأوروبيون لديهم الآن صندوق نقد إقليمي، وهو ما كان الآسيويون راغبين في إنشائه لكنهم لم يتمكنوا من ذلك. والواقع أن الإرادة السياسية اللازمة لحماية اليورو متوافرة وقوية ـ بل ربما كانت من القوة بما يكفي لتجاوز المخاوف المتعلقة بالخطر الأخلاقي. ولقد أصبح هدف الحفاظ على سلامة منطقة اليورو، بصرف النظر عن الثمن، الخيار الوحيد المتاح أمام أوروبا بمجرد تبنيها العملة الموحدة.
لذلك، وفي حين يلوح خطر تفكك «أرض اليورو» في الأفق بسبب الأزمة اليونانية، فمن المؤكد أن خبراء الاقتصاد من محبي الموسيقى يتذكرون البيت الأخير من أغنية «هوتيل كاليفورنيا» التي غناها فريق الإيجلز في سبعينيات القرن الـ 20 الذي يقول: «تستطيع أن تنهي إجراءات تسجيل الخروج وقتما شئت، لكنك لن تتمكن من الرحيل أبدا».
والآن نستطيع أن نستمع إلى رجع صدى ذلك البيت من الأغنية بينما تفكر ألمانيا واليونان في مصيرهما المشترك. والحق أن المخاوف في هذين البلدين تشكل درساً موضوعياً لهؤلاء الآسيويين الذين ما زالوا يفكرون في تعميق التكامل الاقتصادي من خلال إنشاء عملة مشتركة.
