الناتج المحلي بين مطرقة الشيخوخة وسندان الإنفاق
من خلال القراءات اقتبست مقالي هذا من بعض المقالات العالمية التي اهتمت بظاهرة ارتفاع نسب المسنين في مختلف بلدان العالم، وحولتها من طاولة الحوار إلى أوراق الصحافة وبين أيدي أغلبية البشر، وحسب وصف أحد المختصين بأنها لا تقل خطورة عن ظاهرة التغيرات المناخية التي تهدد كوكب الأرض.
ولا تقتصر هذه الظاهرة على دول العالم المتقدم, إنما تمتد خطورتها إلى بلدان قارة آسيا بما في ذلك دول الخليج العربي, حيث تشير آخر الدراسات العالمية إلى أن العقود المقبلة ستشهد زيادة كبيرة في أعداد المسنين حول العالم، وعليه نلاحظ التحرك الحاصل لدى الدول المتقدمة تحركاً واهتماماً كبيرين لبحث قضية الشيخوخة وكيفية تغطيتها قبل أن تقذف بآثارها وحممها السلبية بدءا على الناتج المحلي ومن ثم على حطام هيكل الاقتصاد ككل.
إن تزايد عدد المسنين في العالم بات يشكل تحدياً كبيراً لكل المجتمعات، وصدر تقرير عن منظمة الأمم المتحدة «اليونيسيف» يتوقع ازدياد أعداد المسنين حول العالم من 600 مليون نسمة إلى أكثر من مليار نسمة بحلول عام 2040, أي سيكون مسن واحد بين كل خمسة أشخاص، ومن المتوقع كذلك أن تصل أعمار ثلث سكان العالم إلى 60 عاما أو أكثر, وليس هذا فقط, حيث يتوقع ولأول مرة أن يفوق عدد كبار السن وعلى مستوى العالم عدد الأطفال بحلول عام 2040.
هذه المقدمة كانت من مقالات عدة اعتمدت على دراسات ولجان سبقتنا فيها الدول المتقدمة في حصرها وتحليلها ومن ثم تم طرحها في المؤتمرات العالمية, وذلك لخطورة ظاهرة الشيخوخة للسكان على جميع النواحي البشرية, بحيث إنها ستؤثر في النمو الاقتصادي والمدخرات والاستثمارات والاستهلاك وأسواق العمل, كما ستؤثر في تركيبة الأسرة وتركيبات المعيشة والطلب على المساكن وعلى تكاليف المعاشات والرعاية الصحية, وذلك من خلال زيادة الإنفاق العام, التي بالتأكيد ستقتطع من الناتج المحلي الإجمالي، وعليه تحرص الدول المتقدمة على احتواء ظاهرة الشيخوخة قبل بلوغ عام 2040 بطريقة لا تكون عملية تلبية احتياجات شريحة المسنين على حساب الزيادة في الإنفاق العام هذا من ناحية, وليس أيضاً حملاً ثقيلاً على الناتج المحلي, وهذا من ناحية أخرى.
السؤال هنا يطرح نفسه: إذا كانت الدول المتقدمة تحرص على نتائج الدراسة لظاهرة الشيخوخة وغيرها من الظواهر السلبية لئلا تكون حملاً ثقيلا على الناتج المحلي ولئلا تكون أيضاً شريحة المسنين حجر عثرة لعجلة الاقتصاد الذي بلغ ذروته بين اقتصاد دول العالم, فبماذا إذن استعدت الدول النامية لظاهرة الشيخوخة المقبلة, خصوصاً أنها لم تكتمل لديها قواعد البنية التحتية, وكذلك ما زالت تعاني عدم قدرتها على بلورة قوانين خدمة المسنين والمتقاعدين من المسنين؟
في الحقيقة لا يمكن الإجابة عن هذا السؤال, وستترك الإجابة للقارئ نفسه, لكن يمكن أن نجيد قراءة ماذا سيحدث لو أقبل عام 2040 ومعه ظاهرة الشيخوخة بصفة خاصة وباقي الظواهر السلبية بصفة عامة؟
كي نكون أكثر وضوحاً وسلاسة في التحليل لا بد لنا أن نتعرف على العناصر المشتركة بين الدول النامية، فالدول النامية تشترك في ضعف البنية التحتية وأنها ذات اقتصاد أحادي المصدر, فبينما الدول المتقدمة تتصف بالاقتصاد المتنوع, وأن الناتج المحلي لديها من مصادر متعددة ما يجعل اقتصادات الدول المتقدمة لا تتأثر بحالة توعك أحد مصادر الدخل القومي, وهذا ما ساعدها على تشكيل بنيتها التحتية في فترة وجيزة, وذات تقنية عالية قابلة للتطوير والتعديل وفقاً لتغيرات الخدمة المطلوبة، وليس هذا فقط, بل أصبحت تستعد لأي متطلب خدمي متوقع لاحقاً وفقاً لقاعدة البيانات المتوافرة لديها ما جعلها أقل تعرضا للضرر مقارنةً بالدول الأخرى التي ينتقل اقتصادها من حال إلى حال بمجرد المساس البسيط بالمصدر اليتيم لدخلها القومي، وهذا ما جعل عملية بناء وتطوير قواعد البنية التحتية تكون وفقاً لحجم جرعات الإنفاق المخصصة لها في الفترات المتفرقة، أما اهتماماتها بدراسة البيانات المطروحة عالمياً ربما لا تكون من أولوياتها, وذلك لانشغالها بالمتطلبات الحالية بجميع الأصعدة.
من واقع الدراسات الاقتصادية فإن انشغال الدول النامية بالمتطلبات الحالية مطلب ضروري, لكنه غير كاف ما لم تستعد لمواجهة ظاهرة الشيخوخة للفترة المقبلة, وذلك من واقع الأخذ بجدية دراسة وتحليل البيانات والأرقام للفترة الحالية ومقارنتها بالبيانات التقديرية للفترة المقبلة, عندها سنتمكن من تقدير التكلفة المراد تخصيصها في المستقبل لمواجهة ظاهرة الشيخوخة في المجتمع. فعلى سبيل المثال لو تم في الوقت الحالي بلورة قوانين خدمة وامتيازات المسنين والمتقاعدين من المسنين عندها سنتمكن من تحديد تكاليف احتياجات المسنين التي في الغالب تكون ناجمة عن تكاليف توفير خدمة التأمين الصحي، حجم مخصص العلاوة السنوية، حجم بدل النقل، وحجم بدل السكن، وكل هذه الخدمات إذا وفرت أو خصصت للمتقاعد والمسنين للفترة الحالية, عندها سنتمكن من تقدير حجم تكلفة الخدمات المطلوبة للمرحلة المقبلة.
أما إذا لم تستعد الدول النامية لظاهرة الشيخوخة وغيرها من الظواهر، عند حلول عام 2040 ستجد الدول النامية نفسها أمام خيارات كثيرة لا يمكن أن تنفق عليها في آن واحد, وستكمن خطورة ظاهرة الشيخوخة وما تعنيها هذه الكلمة من متطلبات في أن الدول النامية لا تستطيع تغطيتها من الناتج المحلي, وإن تمكنت من تغطيتها, فإنها ستقضي على أكثر من خمس الناتج المحلي, وهذا لا بد أن يكون أيضاً على حساب حجم الميزانيات المخصصة للقطاعات الأخرى، وليس هذا فقط بل سيمتد الأمر إلى عدم تلبية احتياجات شريحة المسنين والمتقاعدين من المسنين وغيرها من الاحتياجات، إذا ـ لا قدر الله ـ انتفت حاجة الدول المتقدمة من ثروات الدول النامية.