.. طوبى لمن يسعون لإشعال أضواءٍ باهرة في أماكن يريد أهلها البقاء في الظلام .. وفي عالم الهوامش والحُقران.
وراء كل جُبنٍ، وراء كل تراجعٍ، وراء كل انزواءٍ، وراء كل قبولٍ بتعسّفِ الإملاء والخنوع والصِغار.. يأتي أبطالٌ ينيرون هذه الكهوفَ الباردة المنزوية، يأتي أبطالٌ يطردون الخفافيشَ من الكهوف، ويكشفون عن الوحش الوهمي الذي يسكن في مخيلات الجبناء، وقابلي الفتات على الأرض. يأتي هؤلاء الأبطالُ ليمنحوا عرْضا واقعيا ملحميا عن الشجاعة والكرامة وحبّ الحقِّ والدفاع من أجل العدالةِ لمن تعودوا التجوالَ بمفازات التهرب والسلبية وعدم الاكتراث!
هُم يهَدَّدَوْن، وينزفون الدماءَ، ويذبحَون، ولكنهم كالشمس ينهضون مشرقين من جديد، وكأنهم مخلوقات الأنوار، لا تستطيع إلا أن تستمر في نشر الأنوار .. فهم لا يتزحزحون قيد أنملة عن مواقفهم، بل لا يعرفون إلا الإقدام..
إذا كان الأبطالُ هم من يدافعون عن حقوقهم، ويحاربون من عبث بأرضهم وكرامتهم، وولغ بالإجرام والخسة فيهم، فبماذا تسمي من يأتي من خارج أطراف النزاع، من لا له أرض، ولا له صفة الانتماء المباشر، ثم يحارب من أجل حق مطلقٍ، وعدالةٍ مطلقةٍ، وإنسانيةٍ مطلقةٍ، وبسالةٍ مطلقةٍ .. إنّ صفةً يجب أن تكون فوق صفة الأبطال!
وإن كان الجبناءُ هم من لا يقفون ضد من يسلب حقهم، ويمرغ كرامتهم، ويهتك مبررات حياتهم، ويدوس على تاريخهم وحاضرهم ومستقبلهم.. فماذا تسمي من يأتي للدفاع عنهم، ثم هم حتى لا يتحركون .. فصفة الجبناء هنا لا تكفي!
''إنساني فارديم ياكفي'' هل سمعت عنها من قبل؟ هؤلاء هم من أبطال الإنسانية، هم يقفون اليوم على قمة البشرية ويضمون العالم، ويضمهم كل العالم، وتهتف باسمهم المظاهرات في جادات مدن الأرض وشوارعها..
الأتراك، أصابهم منا نحن العرب الاتهامات بكل أنواعها، ومنها أنهم جيْبُ أمريكا وإسرائيل في الشرق الأوسط، ولطالما حثونا على وجوههم التراب لأنهم يتعاملون مع إسرائيل تعامل الدول الطبيعية، ويتبادلون الاتفاقيات في كل مجال.. وربما كان معنا حق ولو قليلا، لو كنا أنفسنا أرفع مقاما من ذلك.. إن أمْهَر من تكون بيوتهم من زجاج ويرمون الآخرين بالأحجار هم العرب. الأتراك الآن ليسوا كحزب فقط، ليسوا فقط أردوغان، بل كشعب وكمنظمات هم من يقف في الصف الأول، ومكشوفي الصدر أمام مخالب الشر المسمومة الصهيونية، ولا دليل في الدنيا أقوى من الثبات على الموقف، والصدق في المبدأ من الموت في سبيل ذلك.. ومات الأتراك، وكانوا يعلمون أن الموتَ خيارٌ مطروح وبقوة وأنت تركب الفلوتيلا ''الأسطول الصغير''، محاولا أن تأخذ مواد حياة أساسية لبشر محاصرين حتى الموت..
ليست ''النيويورك تايمز'' من المتحمسين للفلسطينيين (طبعا)، ولكن من عادة هذه الجريدة العريقة أن تنشر كل أسبوع أهم وأكثر قراءة وتفاعلا لخمس من مقالاتها أو تقاريرها المنشورة خلال الأسبوع.. وتصدرها ما كُتب عن غضب يجتاح العالم بعد أن اقتحم الإسرائيليون الإنسانيين على السفينة وذبحوهم.. ولأول مرة تكون عشرات التعليقات ضد إسرائيل وبلغةٍ استغربتُ أن تنشرها جريدةٌ أقل ما يُقال عنها إنها مجاملة لدولة الاحتلال الصهيوني..
وعمّ الغضبُ داخل إسرائيل، ضد الحقير''إيهود باراك''، وهذه الصفة ليست من عندي (فلم ندعي أننا من فريق الأبطال!) ولكن من كاتب إسرائيلي في جريدة إسرائيلية، وكاتبهم المشهور ''ألوف بين'' في جريدتهم المحافظة ''هآرتز'' طالب بقوة وغضب بتكوين سريع للجنةِ تحقيق لكشف جريمة القتل على الفلوتيلا.. السفينة التركية. ومطالبات من رسميين إسرائيليين باستقالة رئيس الوزراء المجرم. واعترفـَتْ ''إينات ولف'' عضو البرلمان عن الحزب العمالي، بأنها حذّرَتْ من مغبّة التورط في قتال مع الفلوتيلا، لأنها ستخزيهم إعلاميا أمام العالم.. وهذا بالضبط ما حصل!
''إنساني فارديم واكفي Insani Yardim Vakfi'' منظمة إنسانية تركية، أُسّسَتْ في عام 1992م لجمع المساعدات من أجل أهل البوسنة، وحتى الآن ساهمت في أكثر من موقع في 120 بلدا، منها ما قدمته أخيرا في كارثتي ''هاييتي'' و''نيوأورليانز''.. ويتعجب ''ياووز ديدي'' نائبُ المنظمة كيف يحارب جيشٌ مدرب عزلاً مدنيين من مهن مدنية بحتة، بل يقتلهم؟! ويصفها بأنها جريمة لم يرَ مثلها من قبل.'' هذه المنظمة هي ما فوق البطولة تأتي لتنير الإنسانية في منطقة تجمّدَتْ فيها الإنسانية من عقود، وحركتْ موجةً عالمية قد تكون الأكبر ضد إسرائيل حتى الآن..
وللمنظمة موقع بكل اللغات المحكية يخبرون ما يحدث في كل لحظة.. ولن تتعجب أن تعرف أن الموقعَ تمت محاولة تخريبه أكثر من مرة، وطبعا ستعرفون من المخرّبون!
إنك تتعجب من شجاعة هؤلاء الناس وثباتهم، فهم يقولون في بيانهم بموقعهم المنشور أمام العالم: ''نحن مصرون أكثر مما مضى في معركتنا لتحرير فلسطين، أكثر من تصميم إسرائيل على سكـْبِ الدماء''.
يا لشجاعة البلاغة، فبحقِّ الله ما نوع هذا التصميم الذي يفوق تصميم إسرائيل على هدر الدماء؟!
