مذهب الإمام مالك بن أنس والقانون الفرنسي
يعتبر القانون الفرنسي من أعرق القوانين المعاصرة وأوسعها انتشاراً وتأثيرا, وتعود بدايته إلى سنة 1805. ويتساءل كثير من المؤرخين عن كيفية بدايات هذا القانون ومدى تأثره بالتشريعات الأخرى؟ والإجابة عن هذا السؤال الجوهري تعود إلى عام 200 من الهجرة عندما دخل مذهب الإمام مالك بن أنس في أوروبا, وأقصد بذلك إسبانيا - بلاد الأندلس سابقاً - على يد العالم المالكي زياد بن عبد الرحمن القرطبي الملقب بـ ''شبطون'' في عهد الحاكم الأموي هشام بن عبد الرحمن. وانتشر هذا المذهب في أوروبا ودخل فرنسا وتأثر به علماء القانون. وكانت أوروبا في جهالة عمياء يبيعون الإقطاعية بما عليها ومن عليها، ويوم أن كان لا يتزوج عامل في إقطاعية بامرأة إلا بعد أن تمر على حاكم المدينة، وكلما مكثت في منزله زاد شرف الخطيب. وفي هذه الأجواء من الجهل والظلم دخل الإسلام أوروبا وحكم أهلها وأسس فيها قواعده العادلة, ووفد على الأندلس جميع سكان أوروبا يغترفون من النور والعلم, وأسس الحياة الصحيحة المتنورة بنور الإيمان والعقل, ومن تلك الفترة تغلل مذهب الإمام مالك بن أنس في العقود والمبايعات والأنكحة والأهلية, وأصبحت أصول المذهب هي الحاكمة التشريعية في الغالب لتلك الدول، وبعد رسوخها فترة من الزمن أصبحت عرفا أو ما يسمى العادة الشفوية. وأعيد في ضوء ذلك صياغة القوانين المدنية والجنائية، ومن ذلك انعقاد البيع ولزومه وإتمامه بالإيجاب والقبول فقط، وتنتقل الملكية للمشتري بذلك، بعد أن كانت المبيعات تتطلب تسليم المبيع وحيازته, وأيضا انتقال الملكية للموكل بمجرد تعاقد الوكيل, كما أن تحديد سن البلوغ القانونية بـ 18 سنة, وهذه قطرة من بحر, كل هذا منقول من مذهب الإمام مالك بن أنس, وهي في القانون الفرنسي، فهل هذه الأحكام التشريعية مأخوذة من القانون الروماني؟ كلا! لأن حكم الأشياء في القانون الروماني يختلف جذريا. ومعلوم أن التشريع الإسلامي عند انتشاره في الشام والعراق وأوروبا أزاح القانون الروماني عن الوجود وأضعف تأثيره, وذلك لمتانة أحكام التشريع الإسلامي وتناسقها مع تطور حياة الناس وانسجامها مع العلم التجريبي والفكر المعرفي. و الغريب واللافت أن يأتي بعض أبناء الإسلام ليقرروا مدى إعجابهم بالقانون الفرنسي كنموذج راق للحياة المدنية, ويصر هؤلاء على أن القانون الفرنسي لم يستمد أحكامه لا من فقه الإمام أبي حنيفة ولا من مذهب الإمام مالك، بل وضع القانون الفرنسي للفرنسيين ولأهل أوروبا في القرن الحديث.
ولا أدري كيف تناسى هؤلاء التاريخ وأحداثه, وتناقل الحضارات وما يتبعه من التأثر الفقهي والقانوني والأخلاقي؟! ولو طالع أحد منهم القانون الفرنسي لوجد أن أغلبه يتفق مع مذهب الإمام مالك بن أنس - رحمه الله - و أحسن من كتب في هذا الموضوع العالم الأزهري سيد عبد الله علي حسين, أحد علماء الأزهر, الذي عاش في فرنسا فترة من الزمن ودرس الحقوق الفرنسية, وحصل بعدها على الليسانس في القانون الفرنسي, وبعد هذه التجربة العملية كتب كتابه المشهور: ''المقارنات التشريعية بين القوانين الوضعية المدنية والتشريع الإسلامي''، قارن فيها بين فقه القانون الفرنسي ومذهب الإمام مالك بن أنس ـ رحمه الله ـ وقال في مقدمة كتابه:
''.. ونحن لا نرد على المنكرين بمثل واحد، بل بتسعة أعشار نصوص القانون الفرنسي المدني..'' وساق الأحكام التشريعية وفي مقابلها مذهب الإمام مالك بن أنس. ولعل فيما تقدم دلالة واضحة على قوة التشريع الإسلامي بمذاهبه المتنوعة, وكيف أنه استوعب المدارس الحقوقية كافة حتى أصبح كيانها الأساسي في شتى الميادين, ولا يعني هذا التوافق التام، إنما يكفي أن تعلم أن دلالات أصول الفقه كالعرف والقياس ومفهوم الموافقة والمخالفة ودلالة النص يتم تطبيقها نظرياً وعملياً في صياغة المواد القانونية، والأخذ في الحسبان المعاني المختزنة في النص، وهل الأولى هو روح القانون؟ أم نصه الظاهر؟ كل هذه الأصول والقواعد مأخوذة من الفكر الفقهي الإسلامي الذي صاغه علماء الشريعة الربانيون كالإمام الشافعي وغيره.
ويجدر بنا أن نؤسس لهذه المعاني الجميلة في حضارتنا, وألا نقف موقف الخائف الحذر من هذه القوانين, خاصة إذا كان أغلبها امتدادا لشريعتنا, ويجب علينا عندها أن نمحّص الدخيل منها على أخلاقنا وعادتنا وقواعد ديننا وأن نعمل ونجتهد في تصدير الفكر القانوني الإسلامي الذي كان يوماً ما منارة للعالم في ظله الوارف فيه, وصدق الله القائل ''يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولوكره الكافرون''.