يعد فرنسيس فوكوياما أحد أشهر المفكرين الأمريكيين خارج الولايات المتحدة، ولا سيما بعد صدور كتابه الشهير ''نهاية التاريخ والإنسان الأخير'', وما زالت أفكاره وكتاباته تثير نقاشاً وجدلاً حتى الوقت الحالي, خاصة بعد حرب العراق التي أيدها في البداية ثم عاد لينتقد طريقة أداء الإدارة الأمريكية مرحلة ما بعد الحرب.
#2#
أنهى فوكوياما أخيرا كتابه الأخير عن التنمية السياسية ودور القانون, الذي يتألف من ثلاثة أجزاء, يبدأ من تاريخ اكتشاف الإنسان للسياسة حتى الوقت الحالي مروراً بالحضارات التي مرت على التاريخ الإنساني, وكيف تطور مفهوم القانون لديها بما فيها الحضارة الإسلامية, وألقى عدة محاضرات في جامعة جونز هوبكنز عن كتابه هذا، فكانت مناسبة كي ألتقيه ونثير نقاشاً موسعاً حول الشرق الأوسط والدمقرطة في مكتبه في الجامعة نفسها، كان لطيفاً ومتواضعاً كفاية كي نلتقي أكثر من أربع جلسات مطولة نتحاور فيها حول فكرة تطور القانون في المجتمعات الإسلامية.
في البداية يرى فوكوياما أن مسألة بناء الدولة في المجتمعات الإسلامية التقليدية كانت مطروحة مع بداية الخلافة الأموية فالعباسية، ثم في السلطنة المملوكية والعثمانية. فكان السؤال الذي طرحته: ما الاستراتيجيات للقيام بذلك؟ لقد كان الدين كما يرى فوكوياما جزءاً مهماً من ذلك. فكانت الإجابة: المجتمعات الإسلامية كانت مجتمعات قبلية في غاية القوة, والمشكلة الكبرى كانت تكمن دائماً في إيجاد قوة سياسية خارج المجتمع القبلي، فالقبائل لم تكن ترغب في أن تُنظم، ولا تتبع نظاما معينا، ولا تعمل بعضها مع بعض فترة طويلة، ولذلك فإن الصراع الكبير كان دائماً هو خلق نظام سياسي يتجاوز القبلية. وبطريقة ما، كما يشرح فوكوياما كان الإسلام وفي وقت مبكر, العقيدة التي حاولت فعل ذلك، لأنه كان بصراحة ضد الولاءات القبلية لمصلحة الأمة الأكبر من المؤمنين. وشرح بتفصيل كبير نظام ''الموالي'' – الموالاة العسكرية، أي إحضار العبيد من حضارات أخرى ثم تربيتها لتصبح موالية للقصر, كما أصبح مع الأتراك خلال العهد العباسي, لأن ذلك تحول ليصبح واحداً من الطرق القليلة التي مكنت المجتمعات المسلمة من خلالها من بناء طبقة من الجنود والمسؤولين البيروقراطيين الذين لم يكن لديهم ولاءات قبلية. وكانت السلطنة المملوكية ككل قائمة على الجنود الأتراك، ومن بعدها العثمانيين أنفسهم، فقد كان جيشهم مملوءا بالأسرى المسيحيين، جنوداً وإداريين. ومرة أخرى، فإن السبب وراء فعلهم ذلك يكمن في أن القبيلة كانت قوية جداً. ومن هذا المنطلق فإن الإسلام، وخلال تاريخ المجتمعات الإسلامية، كان أساساً مهما لخلق نظام سياسي أوسع وأكثر عالمية.
ولكن كيف يقدر فوكوياما النقد الذي ووجه به كتابه ''الإنسان الأخير ونهاية التاريخ''، فسألته من أي بقعة من العالم ووجهت بالنقد الأكثر حدة؟ ولماذا في رأيك؟. يقول: إن من الصعب تحديد هذا الأمر، فقد وُجِّهت لي انتقادات مختلفة من مناطق مختلفة من العالم، ولست متأكداً أياً منها كان الأهم. أعني أنه في الغرب كان هناك كثير من الشكوك – حتى إن كان الغرب يعتبر جزءاً ديمقراطياً من العالم ـ حول إذا ما كانت الديمقراطية متوطِّدة حقاً أم أنها ستنتشر؟ أو أنها نوع من فقدان الإيمان بالمبادئ الخاصة بالغرب. وقد أتى الدعم الأقوى الذي حصل من مناطق العالم التي تحولت إلى الديمقراطية أخيرا، مثل شرق أوروبا أو آسيا، أماكن مثل تايوان، أو كوريا الجنوبية، وجنوب إفريقيا، حيث أعتقد أن الناس لديهم إحساس شديد بما يعنيه العيش في مجتمع ديكتاتوري أو فاشستي، وبالتالي كان هناك تقدير أكبر لفكرة الديمقراطية. أما في الشرق الأوسط، فقد كان هناك ثبات على المبدأ, حيث إن كلمة ''الديمقراطية'' لا تحمل الدلالات الإيجابية نفسها هناك، خاصة منذ تسلم إدارة بوش، لكن حتى سابقاً في التسعينيات، لم يكن لها الدلالات الإيجابية ذاتها التي كانت لدى الأوكرانيين أو البولنديين على سبيل المثال، ولذلك كان هناك نوع مختلف من الانتقادات – حيث يريد الناس شيئاً ما يشبه الديمقراطية، لكن يجب أيضاً أن يختلف عما هو موجود لدينا في الغرب في نواح كثيرة. وعندما سألته عن الربط التقليدي بين كتابه ''نهاية التاريخ'' الذي ظهر في العام نفسه مع كتاب صموئيل هنتنغتون ''صراع الحضارات''، ولذلك تلقى معظم الباحثين في منطقة الشرق الأوسط النظريتين – صراع الحضارات ونهاية التاريخ – كنظرية واحدة، وكأنها بمثابة إعلان لمصلحة الولايات المتحدة في المنطقة!
#3#
يعتقد فوكوياما أن ذلك خاطئ بشكل كلي. فهاتان النظريتان متعاكستان تماماً، بمعنى أن نظرية ''نهاية التاريخ'' تعبر عن حقيقة أن هناك بالفعل قيماً عالمية وثقافة لا تحدِّد من نكون. لكن ماذا بالنسبة لسياسة الولايات المتحدة الخارجية في الشرق الأوسط، ولا سيما يعتبر من المثقفين المؤثرين في مجتمع السياسة الخارجية الأمريكية كما يطلق عليه، فسألته في كتابك ''أمريكا على مفترق الطرق .. الديمقراطية، السلطة وميراث المحافظين الجدد''، قمت بتعريف الإسلامويين بأنهم الإسلاميون المتشددون أو الجهاديون، وقد استخدمت هذه الكلمة. لقد قلت إن الجهاد أصبح يشكل تهديداً للولايات المتحدة. أي نوع من التهديد, هل هو تهديد لمصالح الولايات المتحدة؟ تهديد لقيم الولايات المتحدة؟
أحد الأمور التي كنت أناقشها في ذلك الكتاب كانت أننا بعد أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) بالغنا إلى حد كبير – كما أعتقد – بتقدير كم كان التهديد كبيراً. وفي رأيي أن تلك المبالغة كانت معقولة، لأنه بعد أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) كان الناس يقولون لبعضهم بعضا: ''حسناً، إن كان هؤلاء الناس الذين شنوا الهجوم على مركز التجارة العالمي قد فعلوا ذلك باستخدام الطائرات، فماذا إذا كانت لديهم أسلحة نووية، ألم يكن الأجدر بهم استخدام الأسلحة النووية طالما أنهم مستعدون لتفجير أنفسهم؟'', لذا أعتقد أن الأمريكيين أخافوا أنفسهم حقاً فيما يتعلق بما يمكن أن يحدث بسبب وجود مجموعة صغيرة من المتعصبين, لكنني أعتقد في النهاية أنه من الصعب الحصول على أسلحة نووية، وأعتقد أن قدرة هذه المجموعات على التنظيم الفعلي لإحداث أضرار خطيرة جدية محدودة، وبالتالي فإنني أعتقد أننا أفرطنا في ذكر ذلك الأمر. وبعد ذلك، ونتيجة للمبالغة في ردود الأفعال، جعلنا من التهديد أسوأ لأننا حفزنا كثيرا من الجهادين على الالتزام بسبب غزو كل من أفغانستان، وبشكل خاص العراق، الأمر الذي أعتقد أنه كان له ذلك التأثير. لكنك بعد عام 2001 والحرب على أفغانستان، وقعت على رسالة الحرب العادلة التي أيدت فيها الحرب على أفغانستان ثم دعمت الحرب على العراق. قال: أجل إن معارضتي للحرب لم تكن في الحقيقة تستند إلى معارضة أخلاقية. إنني أعتقد أننا لو استطعنا التخلص من صدام حسين بشكل سريع وبإصابات قليلة نسبياً، ولو كان الوضع بعد الحرب سلمياً، ولو قمنا بالانتقال إلى نظام ديمقراطي مستقر جداً في العراق، ولو لم يكن لدينا عصيان، ولو أن الولايات المتحدة قامت بالاستعداد بشكل أفضل لمعالجة ما حصل في العراق، عندها أجل، لن يكون لدي أي اعتراض في حد ذاته على استخدام القوة للتخلص من شخص مثل صدام حسين. لكن أعتقد أنه لاحقاً، أعني أنه في الواقع كان لدي كثير من الشكوك قبل حدوث الحرب نفسها، لكني أعتقد أن معظمها كانت تتعلق بما إذا كانت الولايات المتحدة مستعدة للتعامل مع كل عواقب إطلاق هذا الغزو. وكلما كنا نقترب من الحرب أكثر فأكثر، كان يبدو لي أننا لم نكن على استعداد للقيام بذلك. وقدمت إدارة بوش الحجة بأننا قادرون على فعل ذلك ببساطة شديدة وأن الأمر سيتم بسرعة، وكان رأيي تماماً أنهم مخطئون في ذلك. لكن لماذا تعتقد أن الولايات المتحدة قد فشلت في إدارة فترة ما بعد الحرب، مقابل نجاحها في إدارة فترة ما بعد الحرب في اليابان وألمانيا؟ فوكاياما: يعود السبب لأشياء عدة، وأعتقد أنه كان فشلاً في تقدير مدى صعوبة هذا النوع من التدخلات، كما أعتقد أنه كان هناك قدر معين من الغطرسة بأنهم كانوا على علم بما يفعلون، ويعرفون ما المتوقع في حال حدوث هذا، وأنهم أسندوا توقعاتهم بالنسبة للعراق على ما حدث في شرق أوروبا عام 1989 ـ بأنك ما إن تتخلص من الديكتاتور ستحصل فجأة على هذا التأييد الكاسح لديمقراطية النمط الغربي، وبالتالي فإنني أعتقد أنهم كانوا ضحية لامتلاكهم هذه الأفكار الواضحة حول ما كان عليه العالم، التي لم تكن في الحقيقة مطابقة للواقع. وإذا ما عدنا إلى الجنرال ماك آرثر في اليابان الذي كان لديه فكرة واضحة حول نزع السلاح ومن ثم التحول إلى الديمقراطية (الدمقرطة)، وهما المستويان أو الدعامتان اللتان قامت عليهما فترة ما بعد الحرب في اليابان. لماذا لم يكن للولايات المتحدة الرؤية الإبداعية نفسها بعد العراق؟
يجيب فوكوياما: أعتقد أن الولايات المتحدة عندما احتلت اليابان افترضت، إلى حد بعيد، أنها ستبقى هناك لفترة طويلة وأن لديها قوة هائلة، وكان هذا في نهاية حرب طويلة ومكلفة جداً بالنسبة للطرفين. وعلاوة على ذلك، فقد كان الدافع الأساسي لغزو اليابان سبباً استراتيجياً شديد الوضوح؛ فالولايات المتحدة لم تقم بغزو اليابان لجعله ديمقراطياً، بل في الواقع للتأكد من أنه لن يشكل تهديداً على آسيا بعد الآن. أما في العراق، فلا أعتقد أن أحداً في الواقع .. وقبل كل شيء، وعلى الرغم من كل التبريرات بوجود أسلحة الدمار الشامل، لا أعتقد أن العراق كان يشكل تهديداً مباشراً حقيقياً للولايات المتحدة، ولم يكن قضية حياة أو موت بالنسبة لها، وأعتقد أن إدارة بوش أرادت أن تنجز كل شيء ممكن وبأقل الخسائر، حتى إنهم لم يخبروا الشعب الأمريكي أبداً بأنه من الممكن لتلك الورطة أن تكون طويلة أو مكلفة، وأن مئات الآلاف من القوات ستبقى في المكان، وهكذا دواليك.
