لماذا هيئة عامة للأوقاف؟

كنت دائما أتمنى أن تتحول إداراتا الأوقاف والزكاة من روتين الإدارة الحكومية المباشرة إلى هيئات عامة تتمتع بقدر معقول من المرونة والاستقلال من أجل تعزيز مستوى كفاءتهما في تحقيق أهدافهما وزيادة فاعلية دورهما الاجتماعي والتنموي. علما بأن الاستقلال الإداري لا يمنع استمرار الإشراف والرقابة الحكومية على أنشطتهما من خلال وضع اللوائح المنظمة لعملهما.
تاريخيا يمكن القول إن التدخل الحكومي في إدارة أموال الأوقاف قديم يرجع ربما للعصر العباسي، حيث أنشئ ديوان للأوقاف. بيد أن سلطات ومركزية ذلك الديوان كانت محدودة جدا، ما أعطى متولي الأوقاف ونظارها قدرا واسعا من الاستقلال الإداري. أما تخصيص وزارة للأوقاف فلم يعرف إلا في منتصف القرن الـ 19 الميلادي زمن الدولة العثمانية، حيث أصدرت قانونا لتنظيم الأوقاف الإسلامية كان له مزايا عديدة حينها. ومنذ ذلك الحين تزايد دور الحكومات في إدارة الأوقاف حتى غدت هذه الأوقاف تدار في معظم الدول الإسلامية بشكل مباشر من قبل الأجهزة الحكومية.
ولعل من الأسباب التي دعت للتدخل الحكومي كثرة الشكاوى من تجاوزات بعض نظار الأوقاف أو ضعفهم عن حماية أملاك الأوقاف تجاه المتنفذين والمتسلطين. ولا شك أن الإشراف الفردي له مثالبه فهو لا يتجاوز الخصائص الفردية للإنسان ويرتقي إلى مستوى جماعي يعتمد على التنظيم الإداري المتطور أكثر من اعتماده على الفرد المستقل.
لهذا جاء الإشراف الحكومي المباشر على الأوقاف، بيد أنه في نهاية الأمر لم يكن أحسن حالا من الإدارة الفردية للنظار. فانتهى حال كثير من الأوقاف إلى الضياع أو السطو أو الاندثار بسبب تدني قدرة الأجهزة الحكومية في إدارة الأوقاف - خاصة الأوقاف الاستثمارية منها - سواء من حيث جودة خدماتها أو قدرتها على تطوير وتحسين عوائدها فقد عرف عن الإدارات الحكومية المركزية الشديدة والتراكم العمودي في السلطات الأمر الذي يضعف القدرة على اتخاذ القرار المناسب بالسرعة والكفاءة المناسبة. وتبرز هذه الظاهرة أكثر في الدول التي تفتقد نظمها الإدارية في الحكم للحكومات المحلية. فهي تمارس دورها وفق النظم والأساليب الرسمية في إدارة الأموال العامة، كما تخضع لطرق التفتيش والرقابة الحكومية التي قلما تتوافر فيها الرقابة الكافية، وقلما يتم فيها قياس الأداء على أسس موضوعية فاعلة. وكثيرا ما يطرأ على هذه الإدارة الترهل وتراكم العمالة والفساد الإداري، هذا بجانب انعدام الدافع الذاتي في الأجهزة الحكومية، وضعف المعرفة والخبرة الفنية المناسبة.
لكل ذلك، انتهى الأمر في معظم الدول الإسلامية إلى زيادة النفقات الحكومية على الأوقاف بأكثر من الإيرادات المتحصلة من أموال الأوقاف الاستثمارية، وهي إيرادات ضعيفة وقليلة في أصلها. فاقتضى ذلك في معظم الأحيان أن تقدم الحكومة دعما مباشرة من الموازنة العامة للإنفاق عليها.
لكن بين الإشراف الفردي على الأوقاف والإشراف الحكومي المباشر يأتي تنظيم أفضل وهو الهيئات العامة المستقلة. وبصدور قرار مجلس الوزراء بإنشاء هيئة عامة للأوقاف نكون قد بدأنا الخطوات الأولى نحو تحقيق فوائد هذا الاستقلال الإداري المنشود لمؤسسة الوقف من أسلوب الإدارة الحكومية سواء من حيث بطء إجراءاتها أو انخفاض مستوى جودة ونوعية خدماتها. ومن المتوقع ألا تقتصر فوائد هذا التنظيم الجديد على تحسين أسلوب العمل في إدارة الأوقاف، بل وبالقدر نفسه من الأهمية سيعمل على رفع كفاءة أساليب وطرق تنمية أموال الأوقاف القائمة أو حتى إنشاء أوقاف جديدة، ولهذا حديث آخر.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي