هل البنوك الإسلامية رأسمالية؟

كثر الحديث في الآونة الآخيرة عن تشبيه البنوك الإسلامية بنظيراتها التقليدية، وكان هناك بعض الخلط في التشبيه. فمن المشبهين من وسم البنوك الإسلامية بأن تصرفاتها أو طريقة تفكير العاملين فيها محكومة بـ "العقل الربوي". ومنهم من قال إنها محكومة بـ "الفكر الرأسمالي"، ومنهم من جمع بين الوصفين. وللتوضيح فإنه يجب التفريق بين "العقل الربوي" و"العقل الرأسمالي". فهناك عديد من البنوك الربوية في أوروبا تعرف باسم البنوك الاجتماعية أو البنوك التعاونية وهي لا تتسم بأنها بنوك رأسمالية. وعليه فإن كل رأسمالي ليس بالضرورة أن يكون ربوياً، وفي المقابل، كل ربوي ليس بالضرورة أن يكون رأسمالياً، مع التوضيح أن كلا الوصفين يعتبر ذماً عندما يسقط على البنوك الإسلامية.

ولمعرفة الفرق، لا بد من توضيح الفلسفة التي استندت وتستند إليها الرأسمالية على مر السنين. إنها فلسفلة "المصلحة الفردية" Self-interest المستندة إلى فلسفة "الفردية" Individualism Philosophy. هذا هو المعتقد الأساس الذي يحكم الرأسمالية منذ نشأتها بعد سقوط نظام الاقطاعيات في الدول الغربية. واستناداً إلى ذلك، فإن الفكر الرأسمالي لدى رجال الأعمال مهما اختلفت أديانهم أو أصولهم أو أماكن وجودهم، يتمحور حول المصلحة الفردية المتمثلة في تعظيم الأرباح. لهذه الأسباب كانت الرأسمالية ولا تزال تعاني من الانتقادات الموجهة إليها من النشطاء الاجتماعيين بوصفها مدعاة للطمع والجشع، في الوقت الذي كان ولا يزال يصر فيه كبار الاقتصاديين العالميين من أمثال (ليفيت، وفريدمان) وأتباعهم أن الهدف الرئيس للشركات هو فقط تحقيق الأرباح وتعظيم ثروات المساهمين، وأن أي نشاط تطوعي أو اجتماعي أو خيري ما هو إلا وسيلة من وسائل المناورة من أجل امتصاص الانتقاد الموجه للرأسماليين. حتى أن كثيرا من علماء الاجتماع والسياسة المعاصرين وصفوا قرارات الشركات المشاركة في الأمور الاجتماعية بأنها تستند إلى مفارقة بين مواقف trade-off يكون الفيصل فيها تعظيم الربحية أو تعظيم قيمة المساهمين. أي أنه عندما تقرر شركة ما تحسين أجور العاملين على سبيل المثال، فإنها لن تقدم على هذه الخطوة إلا إذا كانت مربحة لها.

وقد ازداد طين الجشع الرأسمالي بلة منذ ثمانينيات القرن المنصرم عندما سيطر المحافظون على مقاليد الحكم في بلاد الأنلجوساكسون (تاتشر في بريطانيا وريغان في أمريكا) فقرروا أن يتركوا الشركات تلعب على راحتها في السوق مع تخفيض القيود الحكومية إلى الحد الأدنى معتمدين على أيديولوجية الليبرالية الجديدة New-Liberalism التي في ضوئها تكون "اليد الخفية" للسوق Invisible Hand هي المنظم والمشرع لسلوك وتعاملات الشركات والمستهلكين وكل الأطراف الأخرى ذات العلاقة. وهذا ما جعل الشركات أكثر جشعاً وطمعاً وخداعاً ومراوغة ونفاقاً من أجل تحقيق ما تريد: المصلحة الفردية.

المشكلة التي تواجهنا في هذه الأيام هي أن الدول الإسلامية عندما قررت أن تعمل وفقاً لحرية الأسواق وتخفيف القيود التشريعية استجابة للعولمة الأمريكية، أصبح الجو السائد هو الفكر الرأسمالي ذي فلسفة المصلحة الفردية مع اختراقات "لليد الخفية" هنا وهناك. وهنا يجب أن نعود إلى السؤال المطروح في عنوان هذه المقالة: هل البنوك الإسلامية رأسمالية؟

لا أريد أن أرتجل وأجيب عن هذا السؤال، بل إني أحبذ أن أطرح عددا من الأسئلة التي من شأنها أن تجعل القارئ الكريم يحدد بنفسه أن البنوك الإسلامية رأسمالية أم لا.

هل البنوك الإسلامية تهدف للربح حتى ولو كان هذا الربح فاحشاً؟ هل البنوك الإسلامية تعلن عن مشاريع خيرية أو إسهامات اجتماعية نفاقاً؟ هل البنوك الإسلامية تراعي الاحتياجات التمويلية للفقراء أم أنها بنوك متاحة فقط لمن هو مقتدر؟ هل البنوك الإسلامية تراوغ القوانين التي تحد من قدرتها فتذهب وتؤسس فروعا أو أعمالا لها في البلدان ذات القوانين المتراخية مثل جزر الكيمان أو جزيرة لوبان الماليزية؟ هل كبار المديرين في البنوك الإسلامية لا يلهثون وراء مكافآت نهاية العام؟ هل مكافآتهم كانت أقل من مكافآت مديري البنوك التقليدية؟ هل البنوك الإسلامية تلتزم بالفتوى التي تتعارض مع القانون؟ هل البنوك الإسلامية تكيف وتطوع الفتوى مثلما تريد؟ هل البنوك الإسلامية تخرج منتجات مشتقة من رغبة السوق حتى لو كانت الرغبة تتعارض مع المقاصد الشرعية؟ هل المنتجات المالية الإسلامية أعلى سعراً من المنتجات التقليدية؟ هل الفتوى تحكم الصفقات الكبيرة أم أن الصفقات الكبيرة هي التي تحكم الفتوى؟ هل تستخدم البنوك الإسلامية أسماء المشايخ في عملياتها التسويقية؟ هل البنوك الإسلامية شركات ذات مسؤولية محدودة: أي أن ملاكها لا يتحملون مسؤولية شخصية عن أفعالهم وأفعال مديريهم؟ (بالمناسبة: الشركات ذات المسؤولية المحدودة من أبرز سمات الشركات الرأسمالية، وقد روعي هذا الأمر في معيار الشركات في معايير هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية). هل المديرون في البنوك الإسلامية مؤمنون بالعمل المالي الإسلامي أم أنهم قدموا إليه لأنه مربح فقط؟ هل العاملون في البنوك الإسلامية يظهرون التزاماً دينياً يميزهم عن نظرائهم في البنوك التقليدية؟

باختصار شديد: هل البنوك الإسلامية علمانية؟ فالرأسمالية هي الأساس الاقتصادي للعلمانية على اعتبار أن "البزنس لا دين له".

كما ذكرت سالفاً أترك إجابة السؤال الرئيس للمقالة لفهم القارئ واستيعابه لمفهوم الرأسمالية، كما أنني أتمنى على كل من يعمل في المجال الشرعي في البنوك الإسلامية أن يجيب ــ بينه وبين نفسه ــ عن كل الأسئلة السابقة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي