الابتعاث في عيني مبتعث لأمريكا
جمعتني الصدفة بنخبة من أبناء وبنات الوطن المبتعثين ضمن البرنامج الرائد برنامج خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز للابتعاث الخارجي .. التقينا في مقر الملحقية الثقافية السعودية على ضفاف نهر بوتوماك في واشنطن .. ودار هذا الحديث:
سأل أحدهم عن دار الغربة والصدمة الثقافية the Culture shock؟
فتحدثت في هذه الفرصة الضيقة قائلا: بينما كنت أحزم حقائبي استعدادا للانتقال إلى أمريكا طالبا مبتعثا للدراسات الجامعية والعليا كنت أشعر بالرهبة والهيبة من التعايش والائتلاف مع ثقافة هذا المجتمع الجديد، وهذه الحضارة الباهرة التي لم يتخيلها الإنسان و لم يتصورها، فالصهر الذي حققته الحرب الأهلية الأمريكية التي وقعت بين الشمال الصناعي والجنوب الزراعي (1861 - 1865) أسس لولادة أمة عظمى شبت بقوتها المادية العملاقة وبقيمها التي يمكن ألا تشيخ لقرون مقبلة، أعود وأقول لقد كانت تجربتي مع أمريكا قد اقتصرت على معرفتي ببعض رجال الأعمال والأكاديميين من الذين التقيتهم في المملكة، وكذلك من انطباعات تشكلت لدي خلال مطالعاتي .. هذه التجارب لم تكن بالطبع كافية لمعرفة المجتمع الأمريكي والتكيف مع الحياة الجديدة والتغلب على الصدمة الثقافية .. وأيضاً في ذلك الوقت لم أكن لأدرك فيه حقيقة الاختلاف الثقافي.
وصلت مدينة نيويورك الجميلة في يوم ضبابي .. جئت من بلد بعيد جدا عن أمريكا مسافة وثقافة ولغة .. لذا كانت الصدمة الثقافية متوقعة ولا يمكن تفاديها في دار الغربة .. لقد جفلت في البداية ووقفت مرتاباً وحاولت أن أستعمل مشاعري ثم عقلي وتمكنت من أن أستجيب لمؤثر (الغربة) استجابة ايجابية أكثر منها استجابة سلبية .. في البداية عانيت بعض الضغوط بسبب عدم إجادة اللغة ولكن لم أكن متشائماً .. لقد وجدت أن فوارق اللغة ليست بتلك الصعوبة ... قد تكون هناك صعوبة في البداية في التكيف وهذا شيء طبيعي لأي إنسان ينتقل إلى مكان جديد للعمل أو الدراسة ولكن بعد الشهور الأولى كانت الأمور أسهل بكثير. لقد واجهت مراحل الصدمة الثقافية مرورا بمرحلة شهر العسل كما يقول الدكتور بول بيدرسن Pedersen Paul في كتابه: The Five Stages of Culture Shock ثم المرحلة السلبية ثم مرحلة التكيف.
سأل مبتعث:I was thrilled to discover, upon my arrival at college, that I was in a new group of people. كيف أمضيت الوقت في أمريكا فقد نمر بالتجربة ذاتها؟
أجبته باختصار: الذهاب إلى المدرسة وحضور المحاضرات وزيارة المكتبات والمشاركة في المؤتمرات العلمية .. استعمل عقلي وبصيرتي، أقرأ و أتابع وأقيس وأفكر وأبحث .. فلابد أن نعي دورنا في هذه الحضارة العلمية الشيقة ... كذلك أمضيته في بناء الصداقات والتعلم من الثقافات والحضارات المتعددة وما تمثله من أطياف علمية وإثنية واجتماعية وثقافية وعقائدية مختلفة، وهذا التنوع هو مدرسة بالفعل لمن يريد أن يسمع ويتعلم.
وسألت مبتعثه: ما الأمر الذي شد انتباهك في هذه البلاد؟
قلت: الكم الهائل من مراكز الدراسات والبحوث Think Tanks وتخصصاتها المتباينة التي تغطي الشؤون الحياتية كافة وبحوثها ودراساتها لا تعد ولا تحصى لدرجة أنني أتمنى أحيانا أن تتعدى عدد ساعات يومي إلى أكثر من 24 ساعة ليتسنى لي متابعة منتوجها الفكري والبحثي والمعلومات والدراسات السباقة. وأقول لأبناء وبنات الوطن المبتعثين: تذكروا دائماً أنكم أمل كبير لأمتكم ووطنكم، وأن هناك وطنا عظيما ينتظركم ... ينتظر قدراتكم وسموكم الخلقي .. يحتاج إليكم في بنائه ومواصلة إنجازات الخير والبناء والعطاء في ضوء توجيهات قيادتنا الرشيدة وفى ظل دينه وعقيدته وشريعته السمحة.
هذه لمحة قصيرة ربما لا تجدون فيها علامات طريق بينة ... ولكن أقول للمبتعث لا تخف في محاولة التعامل مع الأشياء الجديدة والخروج من العزلة والقوقعة المريحة و He now works for Capgemini Consulting. Again, strategic analysis forms a central part of his job, but this time it>s analysing business and financial data rather than race data. إن إجادة اللغة و التعامل مع المجتمع الجديد هي عقبات سهلة الزوال وهذه المشاعر لا تجعلها تضغط بثقلها على ذهنك .. فبالقدر الذي يدفعنا إلى أن نكون معولمين علينا أن نكون محليين نتفاعل مع بيئتنا المحلية .. ومدى تفاعلنا معها هو المعيار لإيجابيتنا وقدرتنا على التعلم والعطاء .. والمبتعث يستطيع أن يحصل على تجربة إيجابية بالتكيف مع المجتمع الجديد في وسط عالم متسارع لا يعترف بغير التقدم والعلم والمعرفة وفن التواصل والدبلوماسية في الحوار والتفكير.. ولا بد من تأكيد أنه ليس من السهل أن تكون متعلماً مثقفاً، إن النجاح في ذلك يحتاج إلى شجاعة وتصميم ومثابرة إذ إن عملية التعلم تنطوي على جهود كثيرة. يبقى القول: إن هذه العجالة لن تتسع لتناول تفاصيل أدق وأكثر وضوحا .. ولكن صفوة القول، لقد منحتني تجربة الابتعاث ميزات كثيرة وفوائد جمة منها الثقافية ومنها التعليمية ومنها الحضارية ولعل أكثرها من الحرم الجامعي .. وخاصة تجربة التعايش مع ثقافات مختلفة أعطاني خبرة عالمية واسعة و مميزة ... ولا شك أن هناك عديدا من العناصر الثقافية التي يحتاج المتعلم إلى أن يتكيف معها وأن يعتاد عليها وأن يتعلمها، ولكنها في المجمل تجربة تعليمية وثقافية وحضارية غنية ومثمرة وماتعة جداً ومدرسة عظيمة وأشعر بغبطة غير محدودة بها.هذا ومن هنا فإن الأمانة تقتضي أن أشير إلى الجهود الكبيرة، التي تبذلها الملحقية الثقافية السعودية في أمريكا في خدمة المبتعثين التي تتضمن نجاحات باهرة، ومواقف ثرية، ذات دلالات قوية على النهج القويم الذي تعتمده الملحقية في عملها ... ولا يفوتني التنويه بجهود الملحق الثقافي الدكتور محمد بن عبد الله العيسى ومساعد الملحق للشؤون الدراسية الدكتور محمد بن عبد الرحمن العمر، وكذلك الدكتورة نوال بنت أحمد الجبير مديرة قسم الشؤون الدراسية لزوجات الدبلوماسيين في أمريكا، والأستاذ محمد بن إبراهيم الحمدان مدير مكتب الملحق الثقافي ومنسوبي الملحقية كافة.. فهنيئا للملحقية هذا التميز والعطاء وصدق الانتماء لوطن يستجيب لمتطلبات العصر بثقة واقتدار، ويفتح مجالات واسعة أمام أبنائه وبناته، للعطاء والإبداع والتفوق، دون انعزال أو تقوقع.
.. وللحديث عن الملحقية بقية.