المسؤولية الاجتماعية .. من أين تبدأ .. وأين تنتهي؟
قبل عدة أسابيع بدأت كتابة الإطار العام وأهم المحاور لأحد مقالاتي عن أهمية ضبط التناغم بين المسئوليات الاجتماعية - Social Responsibility - للشركات وخصوصاً البنوك وقيمها الإدارية - Managerial Values – كما هو معروف في دورة حياة التخطيط الاستراتيجي الأساسي، فإذا بي منذ ذلك الأسبوع أقرأ سيلا من المقالات تتكلم عن الموضوع نفسه وتتطرق لمعظم محاوره من جهات مختلفة في عدة صحف وفي مقدمتها الاقتصادية الغراء، وهذا أمر جيد ويبعث على الأمل في غد مشرق لهذه البلاد الطيبة إذا ما طُبقت مفاهيم هذه المسئولية الاجتماعية وأصبحت معياراً ومبدأ يجعل تلك الشركات مع حرصها لتحقيق النمو والربحية تراعي قيم المجتمع واحتياجاته واحتياجات بيئته بشكل متوازن يحفظ للشعب حقوقه وحياته الكريمة، خصوصاً ونحن نتجه بشكل واضح إلى خصخصة كثير مما تبقى من المؤسسات والهيئات الحكومية، ولقد توقفت عن كتابة ذلك المقال وبدأت أتأمل «المسئولية الاجتماعية» من جهة أخرى أكثر أهمية، تنطلق من القاعدة الشعبية إلى أعلى باتجاه رأس الهرم مروراً بالشركات والهيئات ومسؤوليها، ألا وهي «المسئولية الاجتماعية» على الأفراد لا على الشركات، وأزعم أن غياب أو ضعف الشعور بهذه المسئولية هو من أهم أسباب تخلف الدول الإسلامية والعربية، وفي الوقت ذاته سبب رئيسي لتفوق أكثر دول الغرب وبعض دول الشرق علينا فدعنا نناقش هذا الموضوع بهدوء فيما تبقى من هذا المقال.
يمكن تقسيم «المسئولية الاجتماعية» على الأفراد إلى قسمين بحسب وجوبها دينياً ونظامياً وهي:
أولاً: المسؤولية الواجبة التي في تركها أو التفريط بها إخلال بالضوابط الشرعية ويترتب عليها في الغالب أنواع من العقوبة الدينية المُؤجلة وعقوبة النظام والدولة ومنها ما يلي:
أداء الأمانات لأهلها: الأمانة في تأدية العمل على أكمل وجه وفي أفضل صورة، الأمانة مع الوالدين والزوج أو الزوجة وفي تربية الأبناء والعدل بينهم، الأمانة في إعطاء الناس حقوقهم، الأمانة في البيع والشراء، الأمانة في «الرأي» والمشورة، الأمانة في حفظ أسرار الناس وصون أعراضهم، وما ذكر على سبيل المثال لا الحصر.
العدل مع الآخرين: ويشمل العدل بين الزوجات وبين الأبناء وفي الأحكام والتعاملات مع المسلمين وغير المسلمين.
الصدق: مع الناس خصوصاً في التعاملات التي يترتب عليها حقوق اجتماعية أو مادية.
وقد كثر التفريط في هذه الثلاثة أمور جميعاً بين الناس لذا تجد حصاد ذلك في مجتمعاتنا مشاكل لا تعد ولا تحصى، والقرآن الكريم وكتب الحديث مليئة بالأدلة التي تؤكد أهميتها وتُحّرص عليها ومن ذلك قول الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا{58}» سورة النساء.
وإن كانت هذه الأمثلة من المسؤولية الواجبة تتطلب العطاء فهناك أمثلة أخرى لا تقل أهمية تتطلب الكف ومن أهمها:
كف الظلم: وقد كثر في هذا الزمن بين الناس، والظلم ظلمات يوم القيامة بل «إن الله ينصر الأمة العادلة الكافرة على الأمة المسلمة الظالمة» وقد قال الله تعالى في الظلم: «.. فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ» (81) «الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ» (82) سورة الأنعام.
كف الأذى عن الناس عموماً ويشمل ذلك الأذى بالفعل أو الكلام المحسوس لأجسادهم أو لأسرهم أو لبيوتهم وممتلكاتهم أو الأذى المعنوي كالحسد والتجسس والاحتقار والخوض في الأعراض أو النميمة وغير ذلك، قال الله تعالى: «والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا»{ (58) سورة الأحزاب.
ثانياً: المسؤولية المستحبة وهي تعبر عن نبل الأخلاق والمستوى الراقي للإنسان وتفاعله الإيجابي مع المجتمع وفي ذلك أجر وثواب عظيم من رب العالمين، ويشمل ذلك التكافل الاجتماعي ومساعدة الآخرين والعمل التطوعي ونصح الناس بالخير وبالأسلوب المحبب والتعامل الجميل مع الناس والبشاشة لهم وتيسير أمورهم وكف الأذى عن الطريق والمحافظة على البيئة وغير ذلك من الأخلاق الفاضلة والعادات القيمة.
ختاماً, إن احترام الأفراد من دواخلهم قيم المسؤولية تجاه مجتمعهم ومدى انضباطهم في تطبيق هذه القيم يعتبر معياراً لتقدم المجتمع في طريق التنمية والإصلاح الحقيقي، وهذا يتطلب التوعية المستمرة في البيت والمسجد .. في المدرسة والإعلام، وهو يحتاج بشكل أكبر للترسيخ عبر التربية منذ الصغر، كما أن الإحساس بالمسؤولية الاجتماعية من أفراد المجتمع بكل طبقاتهم يؤدي في النهاية لالتزام الشركات بها لأن أعضاء مجالس الإدارة والمديرين التنفيذيين في النهاية أفراد من المجتمع، كما التزام القاعدة الشعبية بهذه القيم وتمسكهم بها يقود حتماً في النهاية كل النظم لتتناغم مع هذه المبادئ والقيم.