لا وقت لحرب تجارية

لا تزال الحرب التي تخوضها الولايات المتحدة حول سعر صرف العملة الصينية مستمرة. حين بدأ الركود العظيم (الأزمة المالية الاقتصادية الأخيرة) كان أخشى ما يخشاه عديد من الناس أن تعود نزعة الحماية لتطل علينا بوجهها القبيح. صحيح أن زعماء مجموعة العشرين أكَّدوا لنا أنهم استوعبوا دروس أزمة الكساد الأعظم (في ثلاثينيات القرن الـ 20)، ولكن 17 دولة من بلدان مجموعة العشرين اتخذت إجراءات الحماية بعد بضعة أشهر من انعقاد أول قمة في تشرين الثاني (نوفمبر) 2008. واسترعى شرط «اشتروا أمريكا» الوارد في مشروع قانون التحفيز في الولايات المتحدة القدر الأعظم من الانتباه. ورغم ذلك فقد تم احتواء نزعة الحماية، وهو ما يرجع جزئياً إلى الجهود التي بذلتها منظمة التجارة العالمية.
إن استمرار الضعف الاقتصادي في البلدان المتقدمة اقتصادياً يهدد بنشوء جولة جديدة من الحماية. ففي أمريكا، على سبيل المثال، يعجز أكثر من واحد من كل ستة عمال راغبين في الحصول على عمل بدوام كامل عن تحقيق هذه الغاية. وكان هذا من بين المخاطر المرتبطة بحزمة التحفيز الأمريكية غير الكافية، والتي كانت مصممة لاسترضاء أعضاء الكونجرس بقدر ما كانت مصممة لإنعاش الاقتصاد. ومع ارتفاع العجز إلى مستويات هائلة أصبح من غير المرجح تنفيذ خطة تحفيز ثانية، وبلوغ السياسة النقدية أقصى مداها فضلاً عن العجز عن تحجيم صقور التضخم، فقد بات الأمل ضعيفاً في الحصول على المساعدة من تلك الدائرة أيضاً. لذا فقد أصبحت نزعة الحماية في الصدارة.
كان الكونجرس قد كلَّف وزارة الخزانة الأمريكية بتقييم ما إذا كانت الصين «تتلاعب بالعملة». ورغم أن الرئيس أوباما أجل الموعد الأخير لتلقي تقرير وزير الخزانة تيموثي جايثنر لبضعة أشهر، فإن مفهوم «التلاعب بالعملة» في حد ذاته معيب بشكل واضح: ذلك أن كل الحكومات تتخذ التدابير المباشرة أو غير المباشرة للتأثير في سعر الصرف. والعجز المتهور في الميزانية لا بد أن يؤدي إلى ضعف العملة؛ وكذلك أسعار الفائدة المنخفضة. وحتى اندلاع الأزمة الأخيرة في اليونان، كانت الولايات المتحدة تستفيد من سعر صرف الدولار الضعيف في مقابل اليورو. فهل ينبغي للأوروبيين إذاً أن يتهموا الولايات المتحدة «بالتلاعب» بسعر الصرف بهدف توسيع الصادرات على حسابهم؟
رغم أن الساسة في الولايات المتحدة يركزون على العجز التجاري الثنائي مع الصين ـ وهو متزايد الضخامة ـ فإن المهم في الأمر الآن هو التوازن المتعدد الأطراف. وحين بدأت مطالبة الصين بتعديل سعر صرف عملتها أثناء إدارة الرئيس السابق جورج دبليو بوش، كانت فوائضها التجارية صغيرة. ولكن في الآونة الأخيرة أصبح الفائض المتعدد الأطراف لدى الصين ضخماً أيضاً.
والسعودية أيضاً لديها فائض ثنائي وفائض متعدد الأطراف: فالأمريكيون يريدون النفط السعودي، والسعوديون يريدون منتجات أمريكية أقل.
في ظل اقتصاد عالمي يعاني نقصا في الطلب الكلي، فإن الفوائض في الحساب الجاري تتحول إلى مشكلة ضخمة. ولكن الفائض في الحساب الجاري لدى الصين أقل في واقع الأمر من مجموع الفائض لدى اليابان وألمانيا؛ حيث يبلغ 5 في المائة كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي، مقارنة بالفائض الذي بلغ 5.2 في المائة لدى ألمانيا. إن عديدا من العوامل الأخرى غير أسعار الصرف تؤثر في الميزان التجاري لأي بلد. وتشكل المدخرات الوطنية أهمية أساسية بين هذه العوامل. فلن يتقلص العجز التجاري الأمريكي بشكل ملموس ما لم تدخر أمريكا المزيد؛ ورغم أن الركود العظيم اشتمل على مدخرات أسرية أعلى (والتي كانت قُرب الصفر)، ففي المقابل كان هناك العجز الحكومي المتزايد الذي كان أكثر من كافٍ لمعادلة المدخرات الأسرية.
إن تعديل سعر الصرف من المرجح ببساطة أن يتحول إلى حيث تشتري أمريكا المنسوجات والملابس ـ من بنجلاديش وسريلانكا، بدلاً من الصين. وفي الوقت نفسه فإن الزيادة في سعر الصرف من المرجح أن تسهم في التفاوت بين الناس في الصين، حيث يواجه مزارعوها الفقراء قدراً متزايداً من المنافسة من قِبَل المزارع الأمريكية المدعومة. وهذا هو التشوه التجاري الحقيقي الذي يعاني منه الاقتصاد العالمي ـ التشوه الذي يسمح بإلحاق الأذى بالملايين من الفقراء في البلدان النامية في حين تساعد أمريكا حفنة من أغنى المزارعين على مستوى العالم.
أثناء الأزمة المالية التي ضربت آسيا في الفترة 1997/1998، لعب استقرار الرنمينبي (عملة الصين) دوراً مهماً في دعم الاستقرار في المنطقة بالكامل. وكذلك ساعد استقرار الرنمينبي المنطقة على الحفاظ على النمو القوي، الذي يستفيد منه العالم بالكامل.
ويزعم البعض أن الصين لا بد أن تعدل سعر صرف عملتها بهدف منع الفقاعات أو التضخم. والواقع أن التضخم يظل تحت السيطرة، ولكن الأمر الأكثر أهمية هنا هو أن حكومة الصين لديها ترسانة أخرى من الأسلحة تحت تصرفها (بداية من فرض الضرائب على تدفقات رأس المال ومكاسب رأس المال إلى مجموعة متنوعة من الأدوات النقدية).
ولكن أسعار الصرف تؤثر بالفعل في نمط النمو، ومن مصلحة الصين أن تعيد الهيكلة وأن تتحرك بعيداً عن الاعتماد المفرط على النمو القائم على التصدير. والواقع أن الصين تدرك أهمية رفع قيمة عملتها في الأمد البعيد، ولكن إخضاع السرعة التي يتم بها هذا لعوامل سياسية كان هدَّاماً إلى حد كبير. (منذ بدأت الصين في رفع سعر صرف عملتها في تموز (يوليو) 2005، كان التعديل نصف أو أكثر قليلاً مما يرى أغلب الخبراء أنه ضروري). فضلاً عن ذلك فإن إشعال مواجهة ثنائية الآن ليس من الحكمة في شيء.وما دام الفائض المتعدد الأطراف لدى الصين يشكل قضية اقتصادية محورية، وبما أن عديدا من الدول تهتم بهذه القضية، فيتعين على الولايات المتحدة أن تسعى إلى حل متعدد الأطراف قائم على قواعد واضحة. ومن الواضح أن فرض رسوم من جانب واحد بعد وصم الصين بالتلاعب بالعملة من شأنه أن يقوض النظام المتعدد الأطراف، وبنتائج هزيلة. وقد ترد الصين بفرض رسوم على تلك المنتجات الأمريكية المدعومة بشكل مباشر أو غير مباشر بواسطة عمليات الإنقاذ الضخمة للبنوك وشركات السيارات في الولايات المتحدة.
لا أحد قد يخرج من الحرب التجارية منتصراً. لذا فيتعين على أمريكا أن تحذر أشد الحذر من إشعال حرب تجارية في وقت يشهد فيه العالم انتعاشاً غير مؤكد ـ رغم ما يتمتع به هذا الميل من شعبية بين الساسة الذين أصبح شغلهم الشاغل هو البطالة، ورغم سهولة إلقاء اللوم على آخرين. ولكن من المؤسف أن هذه الأزمة العالمية صنعت في أمريكا، ويتعين على أمريكا أن تنظر إلى الداخل، ليس فقط لإنعاش اقتصادها، بل أيضاً لمنع تكرار الأزمة.

خاص بـ «الاقتصادية»
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2010.
www.project-syndicate.org

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي