تأمين تبرعي أم تأمين تعاوني؟

قبل أن أكتب هذه المقالة سألت نفسي: ما الذي بقي لي أن أقوله بعد أن استعرضت قضية شرعية التأمين في تلك السلسلة من المقالات التي كتبتها في الأسابيع الماضية بخصوص هذه القضية؟ فبعد استعراض الآراء الشرعية وصلت إلى نتيجة مفادها أنه من الأفضل استبدال تسمية التأمين التعاوني بالتأمين التبرعي ليعبر بشكل أدق عن فكرة من يرى أن التأمين التعاوني الشرعي قائم على فكرة التبرع.
ولعل أول مسألة يمكن أن أذكرها هنا هو أنه لا يوجد تأمين تعاوني شرعي وتأمين تجاري غير شرعي، فالتأمين واحد وما التفرقة التي تم الاستناد إليها في هذا الصدد إلا تفرقة مبنية على اعتبارات لا تمت إلى حقيقة التأمين بصلة، فتأسيس التأمين على التبرع هو أمر غير مقبول كما ذكرت، فالتأمين منظومة متكاملة لا يمكن أن يحكمها تصور معين خصوصاً أن هذا التصور لا يتماشى مع منطق التأمين ولا مع منطق الاقتصاد ولا مع منطق التعامل.
ولذلك فالتفرقة بين التأمين التعاوني والتأمين التجاري بحسب الصور الموجود عليها التأمين في الغرب ومحاولة تطبيقها على التأمين لدينا هي أمر لا يمكن التسليم به لأن التأمين التعاوني في الغرب يقوي مركز المستفيد ويعزز حمايته ويتوسع في التغطية بينما التصور الذي تم وضعه للتأمين التعاوني الشرعي هو تصور يضعف من مركز المستفيد بل ويجرده من كامل حقوقه لأنه ببساطة متبرع.
ولذلك فبالنسبة لي فإن الحكم على التأمين التجاري بأنه محرم شرعاً وأن التأمين التعاوني مباح شرعاً سيكون بالنسبة لي كمن يقول إن الجمعيات الاستهلاكية التعاونية حلال بينما البقالات والسوبرماركتات التجارية حرام. لماذا؟ لأن فلسفة التأمين التعاوني في الغرب هي تماماً مثل فلسفة الجمعيات الاستهلاكية التعاونية التي لا تستهدف الربح ومع ذلك فهي تحقق فوائد اقتصادية لأعضائها مثلها مثل شركات التأمين التعاوني مع أن هذه الجمعيات التعاونية تمارس التجارة وفق فلسفة معينة وعملها قائم على الشراء والبيع، فالمعيار في التفرقة بين التأمين التعاوني والتأمين التجاري في الغرب قائم على قاعدة أيهما أنفع بالنسبة للمستفيد بينما معيار التفرقة بين التأمين التعاوني والتأمين التجاري لدينا قائم على أيهما حلال وأيهما حرام مع العلم بأن المعايير التي تم الاستناد إليها في التحليل والتحريم مختلف عليها ولم تضع في حسبانها المستأمن ولا أي النوعين أكثر فائدة له بل على العكس من ذلك تم وضع معايير للتأمين التعاوني وبموجبها تجرّدَ المستفيد من أية حقوق نظامية أو شرعية له، فتم النظر إليه باعتباره متبرعاً لا يرجو من عمله إلا ثواب الله عز وجل. طبعاً هذا مخالف بشكل كبير لحقيقة التأمين وللحماية التي تقررها الأنظمة للمستفيدين من صناعة التأمين، وكذلك الأنظمة الصادرة لدينا والتي تتضمن مجموعة من المواد التي تحمي المستأمن وتقوي مركزه القانوني في مواجهة شركات التأمين، خصوصاً أن التأمين بمفهمه القانوني قائم على علاقة عقدية بين شركة التأمين والعميل أو المستفيد وأن هذه العلاقة بحاجة إلى أن تُعزز فيها جوانب الحماية للعميل أو المستفيد لأنهما الطرف الأضعف فيها.
إن حاجتنا للتأمين التعاوني كنموذج غربي يجب أن تكون مقترنة بتعزيز الجانب الإنساني في التأمين من حيث توسيع التغطيات والتقليل من الاستثناءات وذلك على حساب الربح لا أن تكون استعارتنا لهذا النموذج لنبحث في دائرة الحلال والحرام فقط ونضطر لكي نصل إلى تحليل هذه العلاقة إلى التضحية بالطرف الأضعف ونعتبره متبرعاً لا أقل ولا أكثر.
كما أنه بالنسبة لمسألة الحلال والحرام وهي مسألة مهمة لنا كمسلمين ينبغي بحثها من حيث النظر إلى التأمين ككل وكوحدة واحدة وبأنواعه وبصوره المختلفة لأنه منظومة متكاملة وسلسلة لا تنتهي من العلاقات المتشابكة سواء بين شركات التأمين بعضها بعضا أو بينها وبين شركات إعادة التأمين.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي