الألم القادم
تبدو الميزانيات البريطانية أحداثا مهمة بحد ذاتها. لكن مع تلاشي الدراما والإثارة، تبين أن بعضها لا تتعلق بالمالية العامة بقدر ما تتعلق بالسياسة. وقد كان أليستير دارلنج، وزير المالية البريطاني، بمثابة منصة إطلاق لحزب العمال في الانتخابات العامة المتوقعة في 6 أيار (مايو).
أثناء استعداد بريطانيا لإجراء الانتخابات، يحتل اقتصادها الضعيف مركز الصدارة في أذهان الناخبين، ولهذا أسباب وجيهة, فهناك شكوك قوية بشأن قدرته على الانتعاش تماما من الأزمة المصرفية والركود اللذين خفضا مكانة بريطانيا إلى أدنى من عديد من الدول الغنية الأخرى. ومصدر القلق على المدى القصير هو إذا ما كان الانتعاش الضعيف المعتمد على الدعم المالي والنقدي يستطيع تطوير القوة الدافعة الخاصة به. وتسود مخاوف من أن تكون بريطانيا فقدت معدل نموها القوي المطرد الذي دام خلال 15 عاما قبل الأزمة المالية. كما أن المالية العامة التي انحرفت بصورة حادة إلى العجز والتي ستحتاج إلى سحبها عن حافة الهاوية ستلقي بظلال قاتمة على البرلمان المقبل.
وقد حاول دارلنج تهدئة المخاوف, فهناك انتعاش بالفعل، إلا أن هشاشته تتطلب العناية به جيدا، ما يستثني أي هجوم مبكر على العجز هذا العام. وأظهر الوزير ضبط النفس لطمأنة الأسواق المالية التي تشعر بقلق شديد من الحجم الهائل للاقتراض الحكومي. لكنه قدم بعض المحليات المعروفة في فترة ما قبل الانتخابات. فقد أعلن عن مساعدة مؤقتة لمعظم مشتري المنازل للمرة الأولى، التي ستعفيهم من رسوم الدمغة، ضريبة شراء الأملاك، كما مدد بعض الدفعات الإضافية للمتقاعدين. وقال أيضا إنه سيدخل تدريجيا زيادة مخططة لضريبة الوقود. إلا أن هذه الهبات ستكلف 1.4 مليار جنيه استرليني (2.1 مليار دولار) عام 2010 ـ 2011.
من الازدهار إلى الإفلاس إلى المحنة
لقد كان دارلنج يهدف بصورة خاصة إلى رسم خط فاصل بين حزب العمال المخضرم وحزب المحافظين المبتدئ فيما يتعلق بالقضية الأساسية لهذه الانتخابات: من الذي يمكن الوثوق به أكثر لتوجيه الاقتصاد واستعادة سلامة المالية العامة؟ إلا أن مصداقية حزب العمال ليست كما كانت عليه. ففي فترتي الانتخابات الأخيرة، كان جوردون براون يتبجح بمدى نجاح الاقتصاد من حيث المعايير التاريخية والدولية على حد سواء. وقد زعم حين كان وزيرا للمالية أنه قضى على ''فترات الازدهار والإفلاس''، وأنه يشرف على أطول فترة من النمو المتواصل منذ عام 1701. لكنه حطم الأرقام القياسية الخاطئة حين أصبح رئيسا للوزراء.
وتقلص الاقتصاد بنسبة 5 في المائة العام الماضي، وهو أكبر انخفاض منذ فترة الكساد العظيم. وبلغ الانكماش على مدى فترة الركود التي دامت ستة فصول 6.2 في المائة. وكان الانخفاض من الذروة إلى الحضيض أقل حدة عنه في اليابان وألمانيا وإيطاليا، إلا أن الركود دائم لفترة أطول من أي اقتصاد آخر في مجموعة السبع. أما المالية العامة فتبدو في حال أسوأ, فعجز الميزانية هو الأعلى، كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي، منذ الحرب العالمية الثانية، بل سيكون الأكبر هذا العام من أي اقتصاد آخر في مجموعة السبع، وفقا لصندوق النقد الدولي. وسيكون تراكم الديون الحكومية بين الأعوام 2007 و2014 ثاني أكبر تراكم بعد الديون الحكومية في اليابان. وبدأ انتعاش من نوع ما في الربع الرابع من عام 2009، حين نما الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 0.3 في المائة من أدنى مستوى له خلال الثلاثة أشهر السابقة. لكن قد يتبين أنه حتى هذا الانتعاش الضعيف قد خمد في الربع الأول من هذا العام. فربما شعر المستهلكون بالإحباط حين عاد المعدل الأساسي لضريبة القيمة المضافة، وهي ضريبة استهلاك، إلى 17.5 في المائة في بداية عام 2010 بعد أن ظل المعدل عند 15 في المائة لمدة 13 شهرا لمواجهة الانكماش. وضعفت الآمال بأن تتمكن بريطانيا من الخروج من المستنقع عن طريق التجارة بسبب الأداء التصديري المخيب للآمال في الآونة الأخيرة.
وبدأت سمعة بريطانيا الاقتصادية تتراجع أكثر فأكثر مع الانتكاسات المتتالية. وتراجع الجنيه الاسترليني أيضا. وانخفضت قيمته المرجحة تجاريا بنسبة الربع تقريبا منذ منتصف 2007، وهو تراجع أكبر مما حدث بعد خروج الجنيه الاسترليني من آلية سعر الصرف الأوروبية عام 1992. ويرى بعضهم أن بريطانيا تتنافس الآن مع دول مضطربة مثل اليونان وإسبانيا على لقب رجل أوروبا المريض. ويرى آخرون أوجه شبه مقلقة مع فترة السبعينيات، حين كان الاقتصاد البريطاني يستحق بالفعل هذا اللقب, فالجنيه الاسترليني مزعزع، والإضرابات تحدث مرة أخرى، والمالية العامة ممزقة، والانتخابات قد تنتج برلمانا معلقا، تماما مثلما كان الحال في ذلك الحين. ولم يسبق أن حدث ذلك إلا مرة واحدة منذ الحرب العالمية الثانية، في شباط (فبراير) 1974.
وهناك أيضا أكثر من مجرد وجه شبه عابر مع اليابان، التي لم تتمكن قط من استعادة وتيرتها الاقتصادية بعد أزمتها المصرفية في التسعينيات. فهل تحذو بريطانيا حذوها الآن بالنظر إلى أن نظامها المالي شارف على الانهيار في تشرين الأول (أكتوبر) 2008؟ يعتقد أولئك الذين يميلون إلى تصديق ذلك أن هناك علامات مقلقة تؤكد ذلك في التقرير الذي أصدرته شركة McKinsey للاستشارات الإدارية، الذي أظهر أن إجمالي المديونية في الاقتصاد البريطاني كانت الأعلى كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي بين عشر دول متقدمة عام 2008، حيث كانت أقل بفارق ضئيل من المديونية في الاقتصاد الياباني. إن التهمة الرئيسية هي أن الازدهار الاقتصادي في فترة النمو المتواصل بعد الركود في أوائل التسعينيات تحول إلى تسمم بالديون. فمع استمرار التوسع زاد اعتماده بصورة مفرطة على الإنفاق الاستهلاكي والعام. وكانت حالات العجز في الحساب الجاري ثابتة. والآن يجب على بريطانيا أن تدفع ثمن خطاياها من خلال خضوعها لفترة طويلة من إعادة التأهيل التي ستجعل أي انتعاش يبدو مجرد صورة شاحبة للانتعاش الحقيقي.
عدم تكرار التاريخ
هناك بعض الصحة في ذلك، لكن ليس بقدر ما يزعم القلقون. فربما كان الاقتصاد غير متوازن قبل الركود، لكن لم يكن ذلك على أي نطاق يشبه ما حدث في جنوب أوروبا, ففي عام 2007، كان عجز الحساب الجاري في إسبانيا يبلغ 10 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي؛ وفي اليونان 14.4 في المائة. وبالمقارنة، كان يبلغ في بريطانيا 2.7 في المائة فقط. وقد سمح انخفاض الجنيه الاسترليني للاقتصاد استعادة قدرته التنافسية بطريقة غير متاحة للأعضاء الأضعف في منطقة اليورو. أما بالنسبة إلى أوجه الشبه مع فترة السبعينيات، فالتاريخ هنا لا يعيد نفسه أيضا، فقد زاد التضخم في الآونة الأخيرة، لكنه لا يزال تحت السيطرة، إذ بلغ 3 في المائة في شباط (فبراير)؛ وكان قد بلغ 27 في المائة عام 1975. وعلى الرغم من الاضطرابات الصناعية الحالية، إلا أن النقابات في القطاع الخاص لم تعد تلك الكيانات العملاقة التي سحقتها مارجريت تاتشر في الثمانينيات. ومن بين كل المقارنات المزعجة، تعد المقارنة باليابان هي الأبرز. وهناك بالفعل أسباب تدعو إلى توقع حدوث أزمة مالية تعوق النمو. إلا أن بريطانيا ليست غارقة في الديون كما توحي أرقام شركة McKinsey, فهذه الأرقام مبالغ فيها بسبب دور لندن كمركز مالي عالمي تتجمع فيه البنوك الأجنبية لممارسة الأعمال الدولية. وبعد تعديل الأرقام وفقا لذلك، أشارت حسابات McKinsey إلى أن الدين يصل إلى 380 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي عام 2008. وعلى الرغم من أن هذا المعدل هو ثاني أكبر معدل بعد اليابان (459 في المائة)، إلا أن هناك أربع دول أخرى- إسبانيا وكوريا الجنوبية وسويسرا وفرنسا- تعاني ديونا تفوق 300 في المائة. وعلى أي حال، حذرت الشركة من أن مجموع الديون يعد ''مقياسا خاما''، وغير كاف لقياس بؤر المشكلات الحقيقية، التي تكمن في بريطانيا في الاقتراض من قبل الأسر وفي العقارات التجارية.
وحتى لو كانت المخاوف المتعلقة بالاقتصاد البريطاني مبالغا فيها، ليست هناك وسيلة سحرية للخروج من هذه الفوضى. فتوقعات وزارة الخزانة بحدوث نمو بنسبة 1.25 في المائة هذا العام تبدو معقولة. إلا أن توقعاتها بأن يتسارع النمو ليصل إلى 3.25 في المائة عام 2011 تبدو متفائلة أكثر من اللزوم. فصحيح أن صندوق النقد الدولي تنبأ بنسبة تبلغ 2.7 في المائة، إلا أن أحدث مسح للمتنبئين المستقلين الذي تم جمعه من قبل وزارة المالية أظهر أنهم يتوقعون نموا بمعدل 2 في المائة في المتوسط العام المقبل. إن الانتعاش مدفوع إلى حد ما أيضا بالإعدادات النقدية المتساهلة بصورة غير عادية. فقد أبقى بنك إنجلترا سعر الأساس عند 0.5 في المائة منذ آذار (مارس) 2009 وحقن الاقتصاد بـ 200 مليار جنيه استرليني عن طريق شراء أصول بأموال البنك المركزي. وسيحظى الاقتصاد بدفعة أخرى مع توقف الشركات عن عمليات تقليص المخزونات التي أدت إلى تفاقم الركود. لكن إذا أريد للانتعاش أن يكون راسخا وفاعلا، يجب أن يكون قادرا على التعامل مع السحب التدريجي للدعم النقدي الطارئ وتطوير قوة دفع أكثر استدامة من القطاع الخاص بدلا من أن تكون ناتجة عن دوران دورة المخزون.
ويتطلب هذا وجود مصادر جديدة للطلب, فقد تم الحفاظ على استمرارية فترة التوسع الطويلة بفضل الاستهلاك المزدهر من القطاع الخاص والإنفاق العام. وعلى الرغم من تباطؤ وتيرة الإنفاق الاستهلاكي في منتصف سنوات 2000 حتى 2009، إلا أن هذا حدث حين كان نمو الدخل الحقيقي منخفضا، الأمر الذي كان يعني أنه كان على المستهلكين اللجوء إلى الاقتراض الإضافي. ونتيجة لذلك، انخفضت نسبة ادخار الأسر من 9.6 في المائة من الدخل المتاح عام 1997 إلى أدنى مستوى لها منذ 50 عاما، حيث بلغت 1.5 في المائة عام 2008. ومن ناحية أخرى، كان صافي التجارة - الصادرات ناقص الواردات - ينتقص من نمو الناتج المحلي الإجمالي.
التجارة في مركز الصدارة
والآن، يجب أن يكون الاقتصاد مدفوعا بصافي التجارة، وبمساهمة من الاستثمار الخاص أيضا. ومبدئيا، هيأ انخفاض الجنيه الاسترليني الظروف المناسبة لذلك, إلا أن الأرقام المروعة للصادرات في كانون الثاني (يناير) ''انخفاض بنسبة 4.4 في المائة مقارنة بشهر ديسمبر'' أثارت المخاوف بأن يتم إجهاض ازدهار الصادرات المأمول. ويقول المتشككون إن المصدرين لم يستغلوا انخفاض الجنيه الاسترليني عن طريق تخفيض أسعارهم الأجنبية. إلا أن الصادرات ارتفعت على الأقل من مستوياتها المتدنية التي بلغتها الربيع الماضي، والتكيف مع تحركات العملة يستغرق بعض الوقت. فعلى سبيل المثال، لم يبدأ نمو الصادرات بتعزيز الاقتصاد بعد تخفيض قيمة العملة بعد الخروج من آلية سعر الصرف الأوروبية إلا في عام 1994. وربما أثر الشتاء الأكثر برودة منذ 30 عاما على الأرقام التجارية لشهر كانون الثاني (يناير)؛ تظهر مسوحات الأعمال التجارية الآن زيادة كبيرة في طلبات التصدير. وهذا منطقي بما أن الصادرات أكثر ربحية بكثير الآن، ما سيشجع الشركات على التوسع في الخارج.
وهناك مصدر قلق مرتبط بذلك، وهو أن بريطانيا أصبحت تعتمد بصورة مفرطة على التمويل. وربما تقلصت الصناعات التحويلية، التي لا تزال تشكل نحو نصف مجموع الصادرات، إلى درجة كبيرة بحيث لا يمكنها الاستفادة من الجنيه الاسترليني الأرخص. إلا أن في هذا مبالغة بأهمية القطاع المالي، الذي كان يشكل، حتى في ذروته، نحو 8 في المائة فقط من الاقتصاد مقارنة بنسبة 12 في المائة لقطاع الصناعات التحويلية. ولا تزال بريطانيا سادس أكبر دولة تصنيعية في العالم. وبعد عشر سنوات من مكافحة سعر الصرف المرتفع (قبل أن يبدأ الجنيه الاسترليني في الانخفاض عام 2007)، أصبحت الشركات الصناعية أصغر حجما وأكثر صحة.
ومن المفترض أن هناك الآن انتعاشا في الإنفاق الرأسمالي الخاص أيضا، خاصة بعد الانخفاضات الحادة جدا التي حدثت خلال فترة الركود، حيث تقلص استثمار الشركات بنسبة 19 في المائة العام الماضي وانخفض الاستثمار في الإسكان بالنسبة نفسها تقريبا. وهناك حاجة ملحة إلى إعادة تجهيز الدولة بمصنع جديد، لتوليد الطاقة بصورة خاصة.
لكن حتى لو أصبح الانتعاش أكثر رسوخا، من المرجح أن يكون ضعيفا هذا العام والعام المقبل, فلا تزال بنوك بريطانيا تحاول إصلاح ميزانياتها الممزقة، ما قد يحد من المعروض من الائتمان. ويشكل هذا مشكلة بصورة خاصة للشركات الأصغر أكثر من الشركات الكبرى، التي تستطيع الوصول إلى أسواق السندات والأسهم، لكنه سيكون بمثابة كابح.
من الذهب الزائف إلى التقشف
سيكون الانتعاش كئيبا أيضا. والغريب أن الركود كان أقل إيلاما مما قد توحي الانخفاضات الحادة في الناتج المحلي الإجمالي، ويعود ذلك جزئيا إلى أن معدل البطالة لم يرتفع بقدر ما كان يخشى، ولأن كثيرا من الأسر كانت محمية بفضل أسعار الفائدة الأقل على تكاليف اقتراضها. إلا أن وقت السداد قد حان الآن. وأيا كان حجم إجمالي الديون في الدولة، لا شك أن الأسر البريطانية هي الأكثر مديونية (نسبة إلى الدخل المتاح) في مجموعة السبع. وهذا وحده سيعوق قدرتها على الإنفاق بحرية في السنوات المقبلة، مع ارتفاع سعر الأساس من معدله الحالي لحالات الطوارئ البالغ 0.5 في المائة ومع زيادة تكلفة القروض العقارية.
وكما أشار Andrew Haldane، المدير التنفيذي لقسم الاستقرار المالي في بنك إنجلترا، فإن الديون تعمل مثل الضرائب، حيث تقلل رسوم خدمتها الأعلى الدخل المتاح. وما يزيد الطين بلة هو أنه ستكون هناك ضغوط ضريبية فعلية في المستقبل القريب. حزب العمال يعتزم زيادة مساهمات التأمين الوطني بواقع نقطة مئوية ابتداء من العام المقبل، إلا أن هذا لن يكون كافيا, ومن المؤكد أن الحاجة ستبرز إلى مزيد من الزيادات الضريبية.
إن الانتعاش الضعيف أفضل من عدم وجود انتعاش, لكن كم ستكون سرعة توسع الاقتصاد بعد الصدمات التي حدثت في السنوات الثلاث الماضية؟
في أدنى مستويات الركود، في الربع الثالث من عام 2009، كان الناتج المحلي الإجمالي أقل بنسبة تزيد على 6 في المائة عنه في الربع الأول من عام 2008. ولو ظل معدل النمو الأساسي للقدرة الإنتاجية ثابتا، لكان هذا يعني أن الاقتصاد كان يعمل بأقل من إنتاجه المحتمل بنسبة 10 في المائة تقريبا. ومع وجود كثير جدا من الموارد الفائضة المتاحة، كان يمكن أن ينطلق الانتعاش بسرعة لعدة سنوات قبل أن يبدأ التضخم.
إلا أن الأزمات المالية تدمر قدرة الاقتصاد وقد تؤثر أيضا في معدل نموه لاحقا. وفي دراسة تستند إلى الأزمات التي حدثت خلال 40 عاما الماضية، معظمها في الاقتصادات الناشئة، يعتقد Michael Dicks، الاقتصادي في Barclays Wealth، أن ما يصل إلى 7.5 في المائة من الناتج البريطاني المحتمل قد ضاع. ويعتقد أيضا أن معدل النمو اللاحق انخفض إلى 1.75 في المائة سنويا.
وتعتقد وزارة الخزانة أن بريطانيا ستعاني صعوبات أقل, فقد خفضت 5 في المائة من الناتج المحتمل، لكنها لم تغير وجهة نظرها القائلة إن معدل النمو اللاحق سيظل عند 2.75 في المائة. ولعل هذا التوقع متفائل للغاية. فالمعهد الوطني للبحوث الاقتصادية والاجتماعية، وهو معهد فكري، يعتقد أن معدل النمو الآن يبلغ 2.4 في المائة. ويعتقد Bart van Ark، الاقتصادي في مؤسسة Conference Board في أمريكا، أنه قد يكون 2 في المائة.
وأحد الأسباب التي تدعو للاعتقاد أنه تم احتواء الضرر الذي لحق بالاقتصاد هو أن الاضطراب في سوق العمل كان أقل مما يخشى. فانخفاض الناتج خلال فترة الانكماش كان أسوأ بكثير عنه في أوائل التسعينيات، حين تقلص الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 2.5 في المائة، إلا أن زيادة معدل البطالة منذ مطلع عام 2008، من 5.2 في المائة إلى 7.8 في المائة، مماثلة للزيادة خلال الفترة التي تعادلها في فترة الركود السابق. وعلى الرغم من أن معدل البطالة سيرتفع بصورة أكبر على الأرجح، إلا أن عدد الأشخاص الذين خرجوا من سوق العمل والذين يصعب عليهم العودة سيكون أقل.
ومن ناحية أخرى، من المحتمل أن يكون نمو الناتج المحلي الإجمالي المستقبلي أبطأ بسبب انخفاض الهجرة إلى الداخل, فمع ندرة فرص العمل وضعف الجنيه الاسترليني، أصبحت بريطانيا وجهة أقل جاذبية وبدأ بعض المهاجرين بالعودة إلى أوطانهم. علاوة على ذلك، حزب العمال وحزب المحافظين ملتزمان بالحد من الهجرة في المستقبل.
وليس الاقتصاد البريطاني فقط هو الذي يتوقع مستقبلا كئيبا, فمن المتوقع أن تشهد منطقة اليورو انتعاشا أضعف، وفقا لتوقعات صندوق النقد الدولي في بداية هذا العام. ويتصور صندوق النقد الدولي أن يفوق النمو في بريطانيا النمو في أمريكا العام المقبل. وعلى الرغم من أن الاقتصاد يعاني نقاط ضعف منذ زمن طويل، مثل ضعف المهارات ونظام النقل المزدحم، إلا أنه يتمتع بنقاط قوة مهمة، مثل انفتاحه على التجارة ورأس المال، وريادته في مجال خدمات الأعمال، وامتلاكه قاعدة علمية قوية وجامعات رائدة عالميا. ويعتقد Michael Porter، الأستاذ في كلية هارفارد للأعمال الذي جعل دراسة القدرة التنافسية مهنة له، أن بريطانيا لا تزال ''مخططا جذابا جدا لتوفير القيمة''.
ويخضع الاقتصاد السياسي لبريطانيا للمحاكمة بقدر اقتصادها, فالحكومة تنفق حاليا أربعة جنيهات استرلينية لكل ثلاثة جنيهات تتلقاها من الإيرادات. ولا يعكس هذا فقط حدة الركود، بل أيضا الأحكام السيئة خلال السنوات الجيدة. فقد كان من الخطأ الاقتراض أصلا، ناهيك عن أكثر من 2 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي عامي 2006 و2007 حين كان الاقتصاد قويا. إضافة إلى ذلك، كان من الممكن أن يكون العجز أعلى لولا الإيصالات الهائلة من أسواق العقارات المزدهرة والشركات المالية.
وتمكن دارلنج من الإعلان عن توقعات أفضل إلى حد ما للاقتراض هذا العام - لكن فقط إلى حد القول إن المعدل المريع أفضل من المعدل المروع. ويتوقع الآن أن يكون العجز 167 مليار جنيه استرليني عام 2009/ 2010، بدلا من التقديرات الأولية البالغة 178 مليار جنيه استرليني. إلا أن هذا لا يزال يعني أن يكون مرتفعا بشكل غير عادي، أي 11.8 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، وسينخفض إلى 11.1 في المائة فقط عام 2010 /2011. ويتوقع الوزير أن تضيق الفجوة، لكن بحلول 2014/ 2015 سيظل هناك عجز بنسبة 4 في المائة. وكان هذا سيبدو كثيرا جدا قبل أن ينفجر الاقتراض بهذه الصورة المذهلة.
وسيحدث بعض الانخفاض تلقائيا مع انتعاش الاقتصاد, لكن ستكون هناك حاجة أيضا إلى وجود برنامج صارم للتقشف المالي. وتمسك دارلنج برأيه بشأن تأجيل بداية هذا إلى عام 2011، على أساس أن الاقتصاد لا يزال ضعيفا جدا. إلا أن نقطة الضعف الرئيسة في خطط الوزير هي أنه لا يزال مترددا فيما يتعلق بالمجالات التي سيتم فيها أولا تخفيض الإنفاق. إضافة إلى ذلك، ربما تولد زياداته الضريبية المخططة على ذوي الدخل المرتفع إيرادات أقل مما يأمل. كما أن توقعاته للمالية العامة عرضة للنكسات في تنبؤاته لنمو الناتج الإجمالي المحلي القوي من عام 2011 حتى عام 2014. وفي الوقت الحالي، يعطي المستثمرون ووكالات التصنيف الائتماني ميزة الشك لبريطانيا, إلا أن هذا لن يدوم إلى ما بعد الانتخابات, فميزانية دارلنج هي بمثابة النفس الأخير للحكومة المحتضرة. وما يهم حقا هو الميزانية الأولى للبرلمان المقبل. ويجب أن تنفذ هذه الميزانية ما فشل الوزير في تحقيقه: وضع خطة موثوقة لتقليل العجز، قائمة على أساس توقعات واقعية بدلا من توقعات مأمولة للنمو، واتخاذ قرارات بشأن المجالات التي سيتم فيها تخفيض الإنفاق، وأيضا الإعلان ـ كما هو مرجح - عن زيادات ضريبية إضافية. لقد تمت المبالغة في الترويج للاقتصاد البريطاني قبل الركود، إلا أن الكآبة مبالغ فيها أيضا منذ السقوط العظيم. وإذا تمكنت الحكومة الجديدة من إثبات أنها قادرة على السيطرة على المالية العامة، سيساعد هذا على تعزيز الثقة. ويكون المستقبل الاقتصادي للدولة أقل إذهالا من ذي قبل حين تبين أن هذا البريق ذهب زائف. وبعد كل هذه المبالغات، قد يتبين أن فترة من الاستهلاك المعتدل للقطاع الخاص والتقشف في القطاع العام ليست شيئا سيئا