هل أسباب تحريم التأمين منطقية؟ (2 من 3)
السبب الثاني للقائلين بتحريم التأمين التجاري هو ما ذكروه بأنه مبني على غرر أو جهالة وذلك بسبب أن المستأمن يدفع القسط وهو لا يعلم إن كان سيحصل على تعويض أم لا، لأن الخطر قد يحصل أو لا يحصل. كما أن شركة التأمين تحصل على القسط ولا تعلم هل ستدفع تعويضا لهذا المستأمن أم لا؟
وجوابي عن ذلك أنه بالنسبة للغرر فيما يخص شركة التأمين فإنه معدوم وذلك لأن عملها يعتمد على ما يعرف بقانون الكثرة أي أنها تعلم سلفاً بمقدار النسبة المئوية التي تدفعها لمجموع المستأمنين لديها، كما أنها تقوم بإعادة التأمين على الخسارة المحتملة فينتفي الغرر في جانبها. أما بالنسبة للمستأمن وهو العميل، فلو فرضنا وجود الغرر أو الجهالة بالدرجة التي وصفها البعض، إلا أنه وحتى نصل إلى حرمة التأمين لهذا السبب فإنه يلزم معرفة سبب النهي عن الغرر. ومع أنه لا أحد ينكر بأن جميع المعاملات والعقود لا تخلو من غرر وجهالة بدرجات متفاوتة كما هو الحال في المضاربة بالأسهم، إلا أن النهي هو ليس بسبب وجود الغرر وإنما بسبب النتيجة المترتبة على وجود هذا الغرر وهي الخوف من حصول النزاعات بين المتعاقدين نظراً لفداحة الغرر وخروجه عن الحد المعقول والطبيعي. والرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ حرم بيوع الغرر حينما كثرت النزاعات فيها وتحديداً حينما كثرت النزاعات في بيوع الثمار في المدينة فنهى عن بيع الثمر قبل طلعه.
وهذا ينسحب على بيع الجهالة كمن يبيع فرسا من مجموعة خيول دون تعيينها فالبائع سيميل إلى إعطائه الفرس الهزيلة والرديئة بينما المشتري سيختار الجيدة وهذا بلا شك مدعاة للنزاع. كما أن الغرر الذي نهى عنه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو الغرر الفاحش الذي يوقع أحد الأطراف في خسارة فادحة بينما يتيح للآخر فرصة الربح بسبب المصادفة مثل بيع السمك في الماء أو الطير في الهواء.
أما الغرر الذي لا يُفضي إلى ضرر فاحش أو إلى نزاع فلا ضير فيه ولذلك نجد أن الفقهاء أجازوا بيع الثمار المتلاحقة على الأشجار وهي التي لا تتم دفعة واحدة وإنما بشكل متتابع وأجازوا كذلك استئجار الظئر (المرأة المرضعة) بطعامها وشرابها وكسوتها رغم ما في هذه الإجارة من غرر، وهذا ينسحب على عقود الضمان والكفالة.
وأبسط مثال على ذلك كفالة أو ضمان الأجهزة الكهربائية, فمعلوم أن البائع أو الضامن يحتسب مبلغا إضافيا على الضمان والسؤال هو: أليس في ذلك غرر لأن المشتري دفع مبلغا أكثر وهو لا يعلم هل يستفيد منه أم لا؟! والفرضية كذلك قائمة في جانب البائع أو الضامن!. كما أن المالكية أجازوا الغرر في العقد إذا دعت الحاجة إليه. وقد ذكر ابن تيمية كذلك من أنه إذا كانت مفسدة بيع الغرر هي كونه مظنة العداوة والبغضاء وأكل أموال الناس بالباطل: فمعلوم أن هذه المفسدة إذا عارضتها المصلحة الراجحة قُدمت عليها. وبتطبيق هذه المسائل على التأمين فإنه يمكن القول إن الغرر في التأمين لا يُفضي إلى نزاع ولا يمنع من التنفيذ. كما أن التأمين مما تدعو الحاجة إليه وفيه حفظ للمال ودرء لخطر أكبر بخطر أصغر، ولقد ضرب الشيخ الدكتور مصطفى الزرقاء مثالا بالتاجر الذي لا يقوم بالتأمين على أمواله في حالة استيراد البضائع فيخسر، فوصل بذلك إلى أن الغرر ليس في وجود التأمين بل هو في عدم التأمين، وذلك لأن التأمين يُخرج التاجر من دائرة الغرر لأنه وسيلة لحفظ الثروة بل ويبقيها قائمة وثابتة ومعلومة، فلا تعتريها الزيادة أو النقصان أو أن تكون بين الوجود والعدم، وبهذا يكون التاجر قد تجنب بالتأمين الغرر الأكبر وهو الخسارة المحتملة في حالة حصول الخطر بغرر أصغر المتمثل في خسارة مبلغ القسط.