التورق المنظم.. هل سينتهي الخلاف في هذه المسألة؟ «1»

الحقيقة أن التورق واحد من المسائل التي أحدث ما يمكن أن نسميه أزمة في عمل المؤسسات المالية الإسلامية. إذ إنه منذ أن ظهر هذا العقد وانتشر بين المؤسسات المالية الإسلامية ومنها البنوك بصنفيها التقليدي والمتوافق مع الشريعة، استمر الخلاف في هذه المسألة رغم محاولات البنوك التغيير في آليات هذا العقد وهيكله إلا أن ذلك لم يجعله مقبولا ومستساغا لدى كثير من الفقهاء والباحثين في مجال المالية الإسلامية.
وبعد أن صدر قرار مجمع الفقه الإسلامي بتحريم التورق المنظم، توقع كثير من المراقبين أن المسألة انتهت، وأصبح على المؤسسات المالية الإسلامية العمل على البحث عن آلية أخرى للتمويل بدلا من التورق, إلا أن عددا من الفقهاء لم يسلموا لهذا القرار، حيث إن فضيلة الشيخ عبد الله بن منيع، الذي يعد أحد أبرز علماء المصرفية الإسلامية, والذي عاش نشأتها وتطورها ما زال يصر على أن التورق المنظم جائز إذا كان مطابقا لشروط معينة، وحصول بعض التجاوزات من البعض لا يعني الاستغناء تماما عن هذا العقد, الذي يعده فضيلته ملبيا لحاجة الناس ورافعا للحرج. (مجلة المصرفية الإسلامية العدد 10).
كما جاء رأي الشيخ المعروف في مجال المصرفية الإسلامية الدكتور نظام يعقوبي أكثر حدة، حيث إنه انتقد الآلية التي يتم من خلالها إصدار القرارات في مجمع الفقه الإسلامي، الذي يتطلب مزيدا من القراءة والتأني قبل إصدار القرارات، ويؤكد الشيخ نظام أن الأبحاث التي عرضت في المجلس تؤيد جواز وليس تحريم التورق. (مجلة المصرفية الإسلامية العدد 10).
والحقيقة أنه حتى مع هذا الخلاف الفقهي الموجود بين العلماء في هذه المسألة فإنه لا بد أن نؤمن بأن طبيعة الفقه الإسلامي مبنية على أساس أن الخلاف في كثير من المسائل الفقهية وارد ومقبول ومعتبر، وهو سمة لهذا العلم، ولعل هذا أحد أسباب ازدهار هذا العلم, ووجود هذا الكم الضخم من الدراسات والبحوث فيه منذ رسالة نبينا ـ صلى الله عليه وسلم. وليس من المتصور أن الفقهاء في أي عصر سيصلون إلى رؤية واحدة لآرائهم الفقهية.
لكن فيما يتعلق بمسألة التورق المنظم فإن كثيرا من الفقهاء الذين يجيزون مثل هذا النوع من العقود يعتمدون على ما كان شائعا عند الفقهاء من أن التورق هو ذلك العقد الذي بشكله البسيط أن هناك من يحتاج إلى المال فيشتري سلعة يدفع قيمتها مؤجلا - ويكون غالبا بأعلى من سعر السلعة لو كان الدفع حالا، ثم يقوم المشتري ببيعها حالا بسعر أقل من القيمة التي اشتراها به غالبا إلى غير البائع، والبائع هنا في الغالب لا يعلم عن نية المشتري هل هي بيع السلعة مرة أخرى أو استخدامها، كما أنه في الغالب يتاجر في هذه السلعة في السوق سواء ببيعها بسعر مؤجل أو حال, فالحكم بالنسبة له لا يعدو أنه باع سلعة بسعر مؤجل أعلى من سعرها حالا، مثل هذا النوع من العقود جائز شرعا.
لكن الذي يختلف هنا في التورق التقليدي عنه في التورق المنظم هو في طبيعة العقد، إذ إنه وإن كان يطلق عليه تورق، إلا أنه يختلف عن التورق الذي تحدث عنه الفقهاء في كتبهم من عدة جوانب، وهي في هيكل المعاملة وآلياتها، وتوصيف وظيفة أطراف المعاملة، التي تجعل من التورق المنظم معاملة معقدة يصعب تطبيقها بالصورة التي تسير عليها عملية التورق بالشكل الذي أجازه جمهور الفقهاء في كتبهم. مع العلم أن بعض الفقهاء قديما وحديثا يرون حرمة التورق على الإطلاق لا بشكله التقليدي أو المنظم، وأنه عبارة عن عقد يدخل ضمن مفهوم بيع العينة الذي يرى جمهور الفقهاء أنه معاملة محرمة واحتيال للتوصل إلى معاملة ربوية.
ولعلنا في هذه المقالة نتعرض إلى أوجه الشبه بين التورق التقليدي والمنظم الذي بناء عليه أجاز عدد من الفقهاء المعاصرين التعامل بالتورق المنظم. وفي مقالات لاحقة ـ بإذن الله ـ نذكر أوجه الاختلاف بين العقدين، وهل يمكن أن تكون هناك آلية لإيجاد صيغة قد تكون أكثر قبولا لدى الفقهاء من النموذج المطبق حاليا.
لعل من أبرز أوجه الشبه بين العقدين هو أنهما يندرجان ضمن مفهوم عقد البيع، الذي يعد الأصل فيه الإباحة بناء على قوله تعالى: ''ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا'' (البقرة: 375)، كما أن هذا العقد يتضمن بيع سلعة بسعر مؤجل في الغالب أعلى من سعرها حالا، كما أن المشتري يبيعها مرة أخرى حالا بسعر أقل من قيمة الشراء، كما أن الغرض من مثل هذا البيع في الغالب هو الحصول على تمويل من قبل المشتري، وليست السلعة أمرا مقصودا إلا أنه يتحرى في الغالب شراء سلعة يسهل بيعها ولا يتأثر سعرها كثيرا بإعادة البيع تقليلا لحجم الخسائر عليه. حيث إنه من الممكن أن يشتري سلعة لا يكون قد استعملها يوما ما ولا يخطط لاستخدامها بأي حال مستقبلا، نظرا لأن الغاية هي الورِق وهو النقد، وليست السلعة على الإطلاق.
هذا التشابه جعل من التورق الذي أجازه جمهور الفقهاء مستندا لمن قال بجوازه من الفقهاء المعاصرين, وهذا واضح من بحوثهم وكتاباتهم، هذا وبعد الحديث عن أوجه الاتفاق فإنه ـ بإذن الله ـ في المقالات القادمة سيتم توضيح بعض الأمور للقارئ الكريم فيما يتعلق بالاختلاف بين العقدين.
د. صلاح بن فهد
مدير مركز التميز للدراسات المصرفية والتمويل الإسلامي في جامعة الملك فهد للبترول والمعادن
[email protected]

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي