الجاسر .. وواقع الدولار الأمريكي
كان من أهم جلسات منتدى جدة الاقتصادي لعام 2010، الجلسة التي عقدت لمناقشة مستقبل الدولار كعملة احتياط دولية. وكان نجم هذا اللقاء حضورا وحديثا محافظ مؤسسة النقد الدكتور محمد الجاسر. في كل مرة ألتقي أو أستمع إلى هذا الرجل أكتشف فيه قدرات استثنائية مبهرة. وليس عندي أدنى شك في أن الجاسر هو أول محافظ سعودي لمؤسسة النقد على درجة عالية من الاحتراف والتأهيل العلمي والإداري. وهو بكل المقاييس والمعايير كفاءة وطنية رفيعة المستوى تدعو للإعجاب والتقدير والفخر. قبل أن ألتقيه في منتدى جدة بأسبوع، شاهدت له لقاء أجرته معه قناة ''سي إن إن'' الإخبارية بمناسبة منتدى دافوس، عكس من خلاله قدراته الفكرية والمهنية والحوارية بتسلسل منطقي وبإبداع معرفي ومهارة لغوية مبهرة وساحرة!
وفي منتدى جدة تحدث الجاسر بهذه القدرات والملكات نفسها، فقدم محاضرة مركزة ودقيقة عن العوامل التي تجعل من عملة ما عملة احتياط دولي، وبين الظروف التي جعلت الدولار يتبوأ هذه المكانة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ثم شرح الأسباب التي جعلت الدولار يحافظ على مكانته النسبية حتى الآن على الرغم من عدم استقرار قيمته في السنوات الأخيرة. وكان مختصر رأيه أن ارتباطنا بالدولار خدم اقتصادنا في الماضي، وما زال أفضل خيار لنا في الحاضر. وهو لم ينكر أن الدولار لم يعد بوضعه الحالي يمثل عملة احتياط مثالية، بيد أن عدم وجود البديل المناسب يجعله أفضل خيار متاح. فالقوة النسبية الباقية في الدولار تأتي من كون الاقتصاد الأمريكي ما زال رغم كل ما جرى هو أقوى اقتصاد في العالم بدلالة حجم الناتج القومي الذي يبلغ نحو 14 تريليون دولار، وهو يفوق حجم الناتج القومي لثاني قوة اقتصادية وهي اليابان بنحو بثلاثة أضعاف (يقدر الناتج القومي الياباني بنحو أربعة تريليونات دولار). وقد يفوق تلك الأهمية أيضا حجم الأسواق المالية الأمريكية وتلك المقومة بالدولار الأمريكي من حيث التنوع والعمق والسيولة. الأمر الذي يعد من أهم مقومات أية عملة احتياط.
وتحدث الجاسر بالطبع عن بدائل الدولار التي يتحدث عنها البعض، كعملة اليورو، ووحدة حقوق السحب الخاصة SDR التي يطالب البعض باتخاذ أيهما عملة احتياط بديلة، أو حتى اتخاذ عملة عالمية جديدة مستقلة لا تكون خاضعة لظروف دولة معينة. وكان رده كما فهمته، لو وجد هذا البديل فأهلا به، بيد أنه لا يمكن لجهة ما فرض أو اتخاذ قرار بجعل عملة ما عملة احتياط دولية، فلكي تحرز عملة ما هذه المكانة عليها أن تعزز مكانتها على مستوى التجارة والتمويل والاستثمار الدولي. وبشكل عام فإن الانتقال إلى عملة ما لا يحدث بين عشية وضحاها، بل يجرى تدريجيا خلال فترة من الزمن.
فبالنسبة لليورو، كان رأي المحافظ أنه مع التسليم بأن اليورو هو إحدى العملات المرموقة دوليا، إلا أنه لم يثبت أنه أكثر استقرارا من الدولار، فسعر صرفه كان عرضة للتقلبات كما رأينا في الآونة الأخيرة. هذا فضلا عن أنه لم يبلغ مكانة الدولار من حيث توفير سيولة كافية منه وأدوات استثمار مناسبة وأسواق مالية واسعة. فسيولة وأدوات وأسواق المال الأوروبية ليست بحجم وعمق وسعة الأسواق الأمريكية. وكل هذا يحد حاليا من قدرة اليورو كي يحتل مكانة الدولار، على الرغم من ارتفاع بسيط في نصيبه في الاحتياطيات العالمية في السنوات الأخيرة.
أما حقوق السحب الخاصة SDR، فقال المحافظ إنها في الأصل وحدة حساب وليست عملة حقيقية. وهي تمثل مطالبات محتملة على عملات الدول الأعضاء في صندوق النقد الدولي، ويقتصر استخدامها داخل صندوق النقد، وبعض المؤسسات المالية الدولية، كما أن إصدارها يخضع لاعتبارات سياسية، فضلا عن محدودية فرص الاستثمار في الأصول المقدمة بها. لكن حتى لو أمكن التغلب على هذه الصعوبات الفنية والسياسية، فإن الأمر سيستغرق سنوات عديدة.
يتضح من قول المحافظ، أن النظام النقدي والمالي العالمي في حاجة إلى إصلاحات جذرية مهمة، وأن وضع الدولار كعملة احتياط هو أفضل الموجود وإن كان لا يوفر الوضع المثالي الذي يرجوه الجميع، بيد أنه لا يبدو في الأفق القريب أن هناك بديلا أفضل من الدولار. ومع ذلك فالجاسر يتمنى حدوث تطور طبيعي يتعزز فيه ظهور عملات احتياط متعددة من أجل قيام نظام نقدي متعدد الأقطاب بدلا من قطب واحد. هذا هو رأي محافظنا القدير، وأما تعليقي عليه فأتركه للأسبوع المقبل.