Author

ماذا يعني منصب صانع السوق وما امتيازاته والتزاماته؟

|
نمر على أكشاك الصرافين للعملات في المطارات وفي الفنادق، ولا يخطر ببال أحدنا أن كل صراف من هؤلاء الصيارفة هو أحد صُناع سوق العملات بالمفهوم الحقيقي العلمي لصانع السوق. فصانع السوق - أي سوق - بشكل عام هو شخص حقيقي أو اعتباري – كشركة - يحتفظ بمخزون من بضاعة معينة يعرضالبضاعة نفسها للبيع وللشراء في الوقت نفسه بهامش سعر أعلى في حالة البيع عادة. ولذلك سُمي بصانع سوق. فهو بعمله هذا يخلق سوقا تتداول فيها البضاعة. فصانع السوق هو البائع والشاري في الوقت نفسه. فهو يوفر السوق الذي يستطيع البائع فيه أن يجد من يشتري بضاعته، كما يوفر في الوقت نفسه السوق للمشتري بإيجاد البضاعة التي يبحث عنها. ومصطلح صانع السوق ليس وضعا خاصا بسوق العملات أو الأسهم، بل هو موجود في أغلب الأسواق كسوق السندات وسوق المعادن والسلع وسوق المشتقات وغير ذلك من الأسواق. ورغم أن جوهر عملية صناعة السوق لا يختلف من سوق إلى آخر - وهي إيجاد سوق لسلعة معينة - لكن تفصيلات القيام بمفهوم هذا الجوهر والامتيازات الواجب توفيرها لصانع السوق مقابل الالتزامات التي يجب عليه أداؤها تختلف اختلافا شاسعا من سوق إلى سوق ومن بلد إلى بلد، وموضوعنا اليوم عن صُناع السوق في سوق الأسهم بشكل عام وما لهم وما عليهم. كم مر بنا في سوق الأسهم السعودية أن نشاهد أن هناك أوامر بيع لسهم أو أسهم لا يوجد عليها أي طلب وبالعكس! وما ذاك إلا لغياب صُناع السوق. صانع السوق بالنسبة لسوق الأسهم هو شخصية اعتبارية - كشركة استثمار - تتبنى سهما معينا وتلتزم أمام منظم سوق الأسهم بأن تشتري أي كمية من هذا السهم تُعرض للبيع، وأن تبيع أي كمية من هذا السهم لمن يطلب الشراء بسعره الذي يحدده السوق فلا تتوقف حركة الشراء والبيع ولا يتعطل السوق ويتوافر بذلك الحماية للسوق من التذبذب الشديد لسعر السهم صعودا وانخفاضا. فصانع السوق في أيام التداول الطبيعية يحقق أرباحه من فارق هامش البيع والشراء للسهم، مثله مثل صرافي العملات. وصانع السوق كذلك يُبحر عكس التيار في حالات هيجان السوق في طفراته وانهياراته فقد يربح عشرات الملايين في اليوم الأبيض في وقت صعود السوق ويخسرها مُضاعفة في اليوم الأسود. صانع السوق المُعين رسميا من الجهة المنظمة للسوق لا بد أن يُعطى امتيازات تشجيعية لضمان ربحيته، كما يجب أن يحصل على امتيازات تسمح له باستخدام أدوات محظورة على الغير من أجل إعانته على أداء التزامه بتوفير السوق للسهم المخصص له عن طريق المحافظة على ديمومة البيع والشراء لذلك السهم. ففي أشهر بورصة في العالم، بورصة نيويورك للأسهم، يُخصص السهم حكرا على شركة واحدة ويُسمى صانع السوق “المتخصص” فهو متخصص بذلك السهم. ولا يعني هذا أنه هو الجهة الوحيدة التي تملك بيع وشراء ذلك السهم، فهناك عدة جهات يمكن أن تشتري وتبيع ذلك السهم -كالوسطاء الفعليين أو عبر الإنترنت - ولكن الاحتكارية هنا بألا يُعطى هذا المنصب “المتخصص” في بورصة نيويورك للأسهم إلا لشركة واحدة. وقد يقول عاقل: إذن فهذا الاحتكار لا فائدة له. وهذا إيراد صحيح إلا إذا علمنا أن المتخصص له امتياز لا يكون لغيره وهو حق الاطلاع على جميع المعلومات المتعلقة بعروض الشراء والبيع لذلك السهم فيستطيع أن “يفرق السوم” بسنتات ويحصل على الصفقة. ولكي أوضح المسألة، فلنشبه من يعرض السهم على السوق سواء بالبيع أو الشراء وكأنه مناقصة تُعرض على تداول وعلى الشركات وعلى المتخصص، ولكن المتخصص - أي صانع السوق - هو وحده من يعرف الأسعار المقدمة من الجهات الأخرى فيفرق السوم ويبيع أو يشتري السهم. فبهذه الطريقة يستطيع المتخصص أن يحقق هامش الربح بين البيع والشراء، كما يستطيع السوق أن يحدد سعر السهم في حالات السوق الطبيعية وكذلك في الحالات التي يقف فيها المتخصص وحيدا عكس التيار، أي حالات الانهيارات والطفرات، حيث يجب على صانع السوق المحافظة على استمرارية البيع والشراء، ويمكنه في حالات خاصة مقننة طلب توقيف السهم عن التداول. وأما في سوق النازداك الأمريكية الحديثة - وهي مثل “تداول” عندنا، أي ليس هناك موقع معين يلتقي فيه البائع والمشتري خارج الشبكة الرقمية - فهي - أي النازداك - لا تُخصص السهم على شركة واحدة بل على مجموعة من الشركات المتنافسة وتلزمهم بالمحافظة على ديمومة عروض الشراء والبيع على شاشاتهم. وبما أن السهم ليس حكرا على جهة واحدة فامتياز الانفراد بالحصول على معلومات العرض والطلب الذي يتمتع به صانعوا سوق نيويورك للأسهم ليس ذا جدوى تنافسية كبيرة في سوق نازداك. ولذا فإدارة سوق نازداك الأمريكية تقدم لصُناع سوقها امتيازا باستخدام أداة غير قانونية، ألا وهي البيع على المكشوف العاري. والعاري هو أن يبيع المضارب أسهما لا وجود لها وهو غير قانوني، وأما البيع على المكشوف العادي فهو أن يتملك المضارب الأسهم عن طريق شرائها بالأجل ويكون الثمن هو الأسهم نفسها مع زيادة مالية ويسمونه هناك “اقتراض الأسهم” لأنه استبدال شيء بمثله (وقد كتبت في نيسان (أبريل) الماضي مقالين في حقيقة وكيفية البيع على المكشوف وأثره في السوق وشرعيته والفرق بينه وبين البيع على المكشوف العاري فليرجع إليها لمن أحب التفصيل). فصُناع سوق نازداك يستطيعون بهذا الامتياز أن يحافظوا على استمرارية البيع والشراء في حالة نفاد مخزوناتهم من الأسهم المخصصة لهم والذي هم ملتزمون بتوفير سوق البيع والشراء لها. فتجدهم في حالات صعود السوق القوية يبيعون الأسهم وهم لا يملكونها (لم يقترضوها كما في البيع على المكشوف العادي) أي يبيعون أسهما لا وجود لها أصلا فيخففون بذلك من حدة صعود السوق ثم يعودون فيشترونها بعد بيعها في فترة لاحقة، فهم بذلك ضخوا أسهما لا وجود لها ثم عادوا فسحبوها. وقد يربحون إذا استطاع صُناع السوق أن يكبحوا جماح صعود السوق، وأما إن تعداهم السوق إلى مستويات أعلى فسيخسرون خسارة عظيمة أحيانا بسبب حتمية شراء الأسهم بأسعار أغلى والتي باعوها - وهم لا يملكونها - من أجل سحبها من السوق. وأما في سوق الأسهم في لندن فصانعو السوق يتمتعون بأن عرض الأسهم بيعا وشراء يكون حكرا على شاشاتهم مما يدفع غالب المستثمرين العاديين - والذين ليس لهم اتصالات داخلية - على الشراء من صناع السوق دون غيرهم. وعندنا في سوق الأسهم السعودية لا يوجد صناع السوق. وأكثر الناس يعتقدون أن كبار المستثمرين هم صناع السوق والصحيح أنهم إما مستثمرون أو مضاربون لا صناع سوق. بل إن بعضهم يقوم قصدا بعكس عمل صانع السوق. فترى بعض هؤلاء يشل حركة السهم ويوقف سوقه ارتفاعا أو انخفاضا. وهذه الفئة كذلك هي من تسبب تذبذب السوق الذي من أجله أوجدت الأسواق العالمية صانع السوق ومنحته امتيازات هي غير قانونية في الأصل كالاحتكارية أو البيع على المكشوف العاري أو التفرد في الدعاية لنفسه دون السماح لغيره. والأحاديث حول إيجاد صُناع سوق لسوق الأسهم السعودية يتردد من حين إلى آخر. والبعض يعتقد أن صناديق الدولة الاستثمارية هي التي يجب عليها أن تعمل عمل صانع السوق، وهذا في اعتقادي أنه نابع من أن المجتمع مازال ينظر إلى الدولة كالضمان الاجتماعي في كل مجالات الحياة. ولا خلاف في أن الدولة يجب أن تقف موقف المتبرع أو شبه المتبرع، وذلك عندما يكون قليل من التبرع يحقق أرباحا متضاعفة ومستمرة ومتعدية على المجتمع كالبذل في التعليم والصحة. أو حين يكون تبرعها باستخدام ثقة المجتمع بها في ضمان إفلاس شريحة معينة من المقترضين بنظام الرهن العقاري أو ضمان دفعاتهم الشهرية المتأخرة، أو حين يكون تبرعها من ناحية التنازل عن بعض مستحقاتها مثل تخفيض أسعار الطاقة المحلية أو تحمل جزء من أسعار الفوائد في الاستثمارات الوطنية أو الرهن العقاري وغير ذلك كثير. والضابط في تبرعات الدولة هو أن يكون تبرعها ذا مردود إيجابي متضاعف أضعافا كبيرة على المجتمع ومتعد إلى جميع شرائحه وقطاعاته. وهذا مما لا يتواجد في جعل صناديق الدولة الاستثمارية صُناعا لسوق الأسهم السعودية. المحافظة على انسيابية سوق الأسهم مطلب مُلح، وصُناع السوق عامل مهم في ذلك. ولكن لكي تتحقق الاستفادة المثلى للمجتمع من إيجاد صُناع للسوق السعودي يجب أن يُقصر ذلك على القطاع الخاص وعلى المنافسة الحرة بينهم دون تمييز أو تفضيل، ولا أحتاج إلى إثبات هذا الطرح. ولكن هناك اعتراض عقلي سائغ في الوقت الحاضر، وهو أن سوق الأسهم السعودية لا تزال في طور المراهقة، وثقافة المستثمرين لا تزال متدنية وعليه فإن السوق تحتاج إلى شبه متبرع يقوم بعمل صانع السوق مؤقتا حتى يُسلم المهمة مستقبلا للقطاع الخاص بعد أن يثبت بالتجربة الفعلية أفضل وأنسب الأُطر القانونية التي تحكم صانع السوق ويتحدد بالتجربة الحقيقية الامتيازات التي يجب أن تُمنح لصانع السوق والواجبات التي يجب عليه القيام بها وحتى يكون الناس على الأقل قد وعوا وفهموا معنى صانع السوق، وشاهد ذلك أن لكل سوق في العالم طريقته الخاصة في تعامله مع صانع السوق. والمناظرة العقلية في ذلك تطول وماهية صانع سوق الأسهم السعودية وامتيازاته وواجباته تحتاج إلى تفاصيل ومعلومات لا تتوافر إلا لمن بيدهم صُنع القرار.
إنشرها