في رحلة الغوص تتمثل قدرات إدارية عربية أخرى
في الأربعاء الماضي استعرضت باقتضاب التراث الإداري للعقيلات واليوم أستعرض تراث إدارياً آخر ساد قروناً من الزمن وقامت عليه ثقافة وبنيت بسببه مدن وقرى, هذا النمط من الإدارة لا يقل أهمية وتنظيما عن نمط العقيلات في الإدارة وإن كان هناك بينهما بعض التباين, فالغوص عملية تكتنفها مخاطر مختلفة وتفترض تضافراً في الجهود مما يجعل بناء فريق العمل وتجانسه من أهم مقومات ذلك النشاط.
في حين يمارس العقيلات نشاطهم في وسط رحب يمنح الفرد حرية في المناورة مما يحتم التركيز على القيم السامية كضابط سلوكي في غياب الرقابة الجماعية, نجد أن الوضع في نشاط الغوص مختلف, فمناورة الفرد السلوكية لا تتعدى محيط السفينة الضيق, لذا يتم التركيز على الضابط السلوكي الجماعي وما ينتج عنه من تضافر, والذي يشار له في الدراسات الحديثة بروح الفريق, وتكوين فريق عمل متضافر المهام متجانس النسق متوازن الإيقاع التنفيذي أمر يمثل تحدياً للتنفيذيين في هذا العصر, لما يكتنف ذلك من تباين في المفاهيم والالتزام والجهد بين أفراد الفريق, إلا أن فريق الغوص كان في الواقع مثال لفريق العمل عظيم التضافر, والسبب يرجع بالدرجة الأولى إلى تجانس المفاهيم ووحدة الثقافة والمعرفة لمهام البحارة المختلفة, فالعلاقة بين السيب (الذي يساعد الغواص فوق السفينة خلال الغوص) والغوص (الغواص) هي علاقة ثقة واعتماد فالغواص يأتمن حياته بيد السيب والسيب يأتمن رزقه بجهد الغواص وكلاهما يجهد نفسه ويركز تفكيره خلال عملية الغوص في سبيل جمع أكبر قدر من المحار. وحيث يشكل فريق سفينة الغوص التي يقودها النوخذا الذي يتحمل سلامة طاقم الغوص وصحتهم وتغذيتهم خلال الموسم, وذلك من خلال توقيت بداية الغوص وتحديد منطقة الغوص وتحديد الراحات, حيث يفرض النوخذا عندما يشعر بأن أحد الغواصة فائق الحماس على قدرته البدنية أن يستريح أو أن يوقف الغوص لذلك اليوم, ويوزع المهام بين الغواصة والسيب ويراقب مدى التجانس في العمل بما يحفظ حياة الغواصين وخلال مدة الغوص التي تدوم أشهراً يحدث بين الطاقم اختلال في إيقاع ونمط النشاط مما يثير بعض التحديات أما حكمة النوخذا الذي يستغل قدرته القيادية واحترام طاقمه في حل تلك الأزمات بروح أبوية لا تخلو من شدة ولين, لذا نجد أن أهم القيم السامية التي تحكم أسلوب الإدارة في نشاط الغوص هي الثقة وتكون في المرتبة الأولى فمنح الثقة لزملاء السفينة والتحلي بها هما أساس استمرار الغوص طوال الموسم, والقيمة الثانية هي الولاء فمن سمات طاقم السفينة الولاء للنوخذا والانصياع لتعليماته, والقيمة الثالثة هي الشكيمة فمن صفات طاقم الغوص المتضافر القدرة على السيطرة على الذات والتحكم في المشاعر والانفعالات, أما القيمة الرابعة فهي العدالة وهي منوطة بصورة واضحة بالنوخذا الذي يجب أن يكون عادلاً وصارماً في عدله وخصوصاً عندما تحدث إشكالات بين البحارة.
حملة العقيلات تتكون من مجموعات (خبرات) يقودها أمير الحملة ورحلة الغوص تتكون من عدة سفن تسمى السنيار يقودها أمير الغوص الذي يسمى (السردال) إلا أن حملة العقيلات تدوم بضع سنين في حين أن رحلة الغوص تدوم بضعة أشهر, كما أن نموذج العقيلات الإداري ينمي القدرة الفردية على بناء المعرفة الذاتية واتخاذ القرارات ضمن حسابات المكاسب والمخاطر في حين نجد أن نموذج الإدارة في رحلات الغوص ينمي القدرة الفردية على العمل ضمن فريق متجانس بوحدة الهدف وتعدد المهام, لذا نجد أن النموذجين يمكن الاعتماد عليهما في بناء نموذج إداري حديث مستمد من التراث و مناسب لبيئة المجتمع و قادر على الاستجابة للتحديات الحديثة يقوم على قيم سائدة في المجتمع ومازالت موروثة وتحكم سلوكياته إلى اليوم.
في هذا المقال أيضا أكرر الدعوة لدارسي ومفكري الإدارة في الجامعات السعودية للعمل على تطوير نظام عربي للإدارة مستمد من تراثنا القيمي الذي تمثله أسلافنا في نشاطاتهم التجارية والحياتية, فلا شك أنه سيكون من عوامل نهضتنا الحديثة.