خصوصية التربية على حقوق الإنسان

إن ثمة تلازما بين (الدندنة) على موضوع الإنسان وحقوقه والحديث عن عالمية تلك الحقوق وخصوصيتها، وذلك في خضم سجال الحراك الثقافي، وبطبيعة الحال تباين الرؤى والمواقف تجاه هذه الجزئية، ويمكن إيجاز ذلك في طرفين بينهما وسط، الانغلاق الفكري والثقافي طرف يقابله في الطرف الآخر التبعية والتقليد، وكلا الطرفين مؤذن بالأفول والضعف الحضاري، وبين هذين الطرفين هناك الانفتاح مع المحافظة على ثوابت الأمة وكليات الدين.
ففي الوقت الذي يمكننا القول فيه إن الله تعالى أثبت بعض خصال الخير لأهل الكتاب: (ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائماً ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيلٌ ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون) (آل عمران: 75).
وقد أثنى النبي - صلى الله عليه وسلم - على النجاشي بما فيه من خِلال الخير، وهو يومئذ على الكفر، فقال لأصحابه: (إن بالحبشة ملكاً لا يظلم عنده أحد، فلو خرجتم إليه حتى يجعل الله لكم فرجاً). (رواه ابن إسحاق في السيرة، انظر فتح الباري (7/188).)
وإيراد حديث المستورد القرشي وهو عند عمرو بن العاص: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (تقوم الساعة والروم أكثر الناس). فقال له عمرو: أبصر ما تقول! قال: أقول ما سمعتُ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم.
قال: ''لئن قلت ذلك، إن فيهم لخصالاً أربعاً: إنهم لأحلَم الناس عند فتنة، وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة، وأوشكهم كرة بعد فرة، وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف، وخامسة حسنة جميلة: وأمنعهم من ظلم الملوك ''. (رواه مسلم ح 2898) وقد كنت أتأمل الخصلة الخامسة وأنا أشاهد محاكمة رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير!! هذا كله يقتضي منا العدل والإنصاف، لكن العدل والإنصاف لا يقتضي التبعية إطلاقاً، فثمة فرق بين الأمرين، ولهذا يحسن بناء تقرير أن التربية على حقوق الإنسان لدى الغرب هي ثمرة الأسس والأصول الفلسفية التي مرت بها القارة الأوروبية ابتداءً من العصر الإغريقي (اليوناني) مروراً بالروماني ثم تأثيرات النصرانية المحرفة وانتهاءً بعصر النهضة الحديثة، وإن من الخطأ نقد التطبيقات دون التنبيه إلى الأصول الفلسفية لهذه التطبيقات فهي الجذور التي بنيت عليها تلك التطبيقات في سياقها الفلسفي والاجتماعي، ولقد نضجت واستوت هذه الأصول الفلسفية في (سفر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948م) والتي تستند التربية على حقوق الإنسان في سياقها العالمي في أهدافها وأساليبها عليه، فلقد جاء في ديباجته:
1 – أن هذه الحقوق الواردة في الإعلان هدف مشترك ومثل أعلى ينبغي أن تسعى البشرية للوصول إليه.
2 – أن يتضمن التعليم والتربية هذه الحقوق للتربية عليها ونشرها.
وقد جاء في ديباجة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان 1948م : ''... فإن الجمعية العامة تنشر هذا الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بوصفه المثل الأعلى المشترك الذي ينبغي أن نبلغه الشعوب وجميع الأمم، كما يسعى جميع أفراد المجتمع وهيئاته واضعين هذا الإعلان نصب أعينهم على الدوام، ومن خلال التعليم والتربية إلى توطيد احترام هذه الحقوق والحريات...''.
ولقد ترجم ذلك إلى أدلة للتربية على حقوق الإنسان أبرزها ما يلي:
1 – دليل (كل البشر، كتاب مدرسي في التربية على حقوق الإنسان) من إصدار منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة، اليونسكو، ولقد ترجمه إلى العربية المعهد العربي لحقوق الإنسان في تونس.
2 – كما أصدر المعهد العربي للتربية على حقوق الإنسان (دليل المدرس في التربية على حقوق الإنسان) عام (2001).
وهذا الكتاب - في تقديري - ظلٌّ باهتٌ للدليل الأول، ''كل البشر'' ولا تكاد تجد فيه ما يشير إلى الهوية الإسلامية بل يدعو فيه المؤلفان إلى اعتماد المرجعية الفلسفية والمدنية التي تأسست عليها حقوق الإنسان حتى لو تعارضت مع المرجعية الثقافية لبعض المجتمعات. يقول المؤلفان بالنص: ''ومن بين المصاعب التي تكتنف تدريس حقوق الإنسان في مستوى الأهداف التربوية تعارض المرجعية الثقافية (بالمعنى العام) في بعض المواقف والرؤى مع المرجعية الفلسفية والمدنية التي تأسست عليها حقوق الإنسان ما يلحق بالمتعلمين إرباكاً فكرياً ونفسياً حول ما هو مقبول وغير مقبول اجتماعياً.. الأمر الذي يستوجب تنقية المناهج التعليمية للحفاظ على تناسق مضامينها وتناغمها مع مبادئ الحقوق والحريات الأساسية ''فهما يناديان بصراحة بتوحيد القبلة تجاه الغرب!
تكمن أهمية التربية في أنها بمثابة الوعاء الذي تُقدم فيه المعلومة والخبرة إلى الأفراد، ومن ثم استيعابها والوعي بها، ثم اتخاذها سلوكاً وممارسةًً، والتربية باعتبارها وسيطاً ثقافياً تتحمل على عاتقها مسؤولية كبيرة في مجال التربية على حقوق الإنسان، وبطبيعة الحال فالتربية عملية اجتماعية تتأثر بفلسفة المجتمع وتعكس صورته وأنماط الحياة فيه، ولذلك فإن الدول تحرص على أن تتولى تخطيط نظم التربية فيها، وتحديد فلسفتها وأهدافها، وهذا يتطلب صد أي محاولة تسرب للطرح التغريبي لحقوق الإنسان والذي ينادي به سدنته صباح مساء!
والذي يظل طرحاً مشوه البنية، متناقض المحتوى غير قادر على الإقناع أو التأثير ومن ثم ظل وسيظل صوتا خارج السرب غير قادر على التجذر، إنه طرح يسعى إلى تحقيق الأهداف والقيم الغربية التي ترتبط بالخبرة التاريخية لسياق حضاري معين، وبالتالي خطورة تعميمها أو الانخداع بها في ظل ضغط الواقع المعاش في بعض الأقطار الإسلامية, الأمر الذي ينتج نوعًا من الصراع الثقافي وغياب الهوية الإسلامية وازدواج المعايير، ونظراً لارتباط التربية على حقوق الإنسان بمنظومة القيم التربوية للمجتمع يظل التأكيد على خصوصية وأصالة التربية على حقوق الإنسان (دندنة) كل مثقفٍ أصيل.
خاطرة:
أين أضعنا يا رفاق السماح
فجرا أفقنا قبل أن يستفيق
نسقيه من خلف اللّيالي الشحاح
دما ويسقينا خيال الرحيق

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي