خطبة الجمعة والوقف

مما يسر الخاطر الاختيار الموفق غالباً للموضوعات التي تتناولها خطب الجمعة في المسجد الحرام والمسجد النبوي الشريف، إذ إنها تبسط قضايا ورؤى معاصرة تدور في فلك هموم واحتياجات الأمة بأسلوب سلس مباشر يبين لها الطريق التي تتوافق مع شرع الله تعالى. من بين تلك الخطب اللافتة للانتباه خطبة الجمعة الماضية التي ألقاها إمام وخطيب المسجد الحرام الشيخ الدكتور سعود الشريم عن دور الوقف في الإسلام، وحاجة المجتمع إليه كأداة لتوثيق الصلات المادية والإنسانية بين أفراده. ومما جاء في الخطبة أن «الوقف نوع من أنواع الصدقات المندوبة غير أنه أفضلها وأدومها وأتقنها وأعمها، وأن الوقف علو للواقف وعزيمة مؤكدة للقضاء على الجشع والشح وحب الذات، كما أن الوقف رحمة وإحساس نبيل ودعم بالغ لاقتصاد المجتمع المسلم، لأن الأوقاف الخيرية تعد من أهم مقومات المجتمعات الناجحة اقتصاديا، إذ يمثل أحد محوري الاقتصاد وهو المحور الأهلي المؤسسي».
وأرجع إمام المسجد الحرام في خطبته سبب انحسار الوقف في عصرنا الحاضر إلى «الجهل بقيمته وفضله وإلى التسويف والتأجيل إلى أن تحل المنية ثمة لا وقف، وللشح دور غلاب لدى كثير من ذوي السعة، إضافة إلى ضعف الثقة بنظار الأوقاف أو أمنائها». وأود أن أضيف هنا إلى تلك الأسباب غياب ثقافة الوقف بين أفراد المجتمع، وجهل الناس من موسرين وغيرهم بالخطوات والإجراءات اللازمة لتأسيس وقف يكون تحت بصرهم في حياتهم، وله من المقومات المالية والإدارة الأمينة ما يكفل بقاءه بعد مماتهم.
بالطبع هناك الخيار التقليدي للأوقاف بشراء عقارات وما شابه، وبالرغم من تفضيل ذلك الخيار لدى السواد الأعظم من المحسنين لأسباب من بينها وجود خبرة تراكمية طويلة في التعامل معه وتوثيقه، وكذلك دوره كعامل تطويري مهم له جوانب اقتصادية، عمرانية، واجتماعية، إلا أنه عادة ما يحمل في طياته إشكالات وصعوبات تتلخص في إدارة وصيانة تلك العقارات ومتابعة تحصيل إيجاراتها. ليس هذا فحسب، بل قد تتفاقم المشكلات إلى حال بائسة عندما تزيد مصروفات صيانة وإدارة تلك العقارات عما قد تدره من دخل. الأمر الذي قد يؤدي في بعض الأحيان إلى إهمال تلك الأوقاف والتخلي عنها وضياعها بالكامل مع مرور الزمن، وهي بلا شك خسارة لكل الأطراف.
ولعل من تيسير الله تعالى لفعل الخيرات أمام عباده أن هيأ لهم آليات جديدة يمكن الإفادة منها في تحقيق مقاصد الصدقة الجارية. وتأتي السوق المالية في مقدمة تلك الآليات بما تحويه من عشرات الشركات المساهمة، وهي كيانات اقتصادية لم تكن مألوفة في مجتمعنا من قبل، إذ يمكن لمن يشاء أن يمتلك أسهماً فيها ووقف ريعها لصالح المؤسسات والجمعيات الخيرية أو حتى الأفراد كصدقة جارية دون أي إرهاق لمستحقيها بدنياً أو نفسياً. ولئلا يلتبس الأمر على البعض، فإن المستهدف من وقف تلك الصدقات في أسهم الشركات هو ريعها، وليس المتاجرة فيها، أي أن التذبذبات في أسعار تلك الأسهم، وإن كانت حادة، لا تفسد مقاصد الوقف.
وكنت قد تطرقت لهذا الموضوع في «الاقتصادية» من قبل أكثر من مرة، مبينا أن تفعيل آلية سوق المال كوعاء للأوقاف يتطلب عملاً مؤسسياً منظماً ترعاه جهة رسمية أو أكثر. كما دعوت في تلك المقالات مجلس الأوقاف الأعلى إلى تبني فكرة تأسيس صناديق «استثمار» تتولى استقبال صدقات المحسنين لشراء أسهم شركات معينة ووقف ريعها لصالح مستفيدين بعينهم، سواء كان ذلك المستفيد مجالاً عاماً من مجالات الخدمة الاجتماعية كالرعاية الصحية، التعليم، أو رعاية المعوقين، أو كان المستفيد مسجداً، جامعة، أو مدرسة باسمها. كما أن قائمة المستفيدين يمكن أن تمتد لتشمل أسماء أفراد مُعّرفين مسبقاً من قبل الواقف. الشاهد هنا المرونة العريضة التي يمكن أن تقدمها تلك الصناديق في إدارة أوقاف المحسنين في إطار خدمة متكاملة تبدأ باستقبال صدقاتهم، مساعدتهم في اختيار الأسهم التي تلائم مقاصدهم من الوقف، تسجيله شرعاً، ثم متابعة صرف ريعه في الوجه الذي اشترطه الواقف.
إن دعوة إمام المسجد الحرام في خطبته في يوم الجمعة الماضية للمسلمين بإحياء سنة الوقف دعوة جديرة بالتثنية عليها في وسائل الإعلام، منابر المساجد، ومؤسسات المجتمع المدني كالغرف التجارية والجمعيات الخيرية وغيرها، إذ إنها دعوة لتلاحم المجتمع ونشر التكافل والمحبة بين أفراده.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي