ما جرى في دبي لا علاقة له بالتمويل الإسلامي
في حقيقة الأمر، لا يمكن ربط أزمة دبي بالتمويل الإسلامي وحسب. فهناك أثر عام يؤثر في التمويل الإسلامي والتقليدي وأظن أن هذا ليس موضوع نقاشنا في هذه العجالة. لكن يمكن النظر إلى جزئية بسيطة تتمثل فيما حصل لصكوك "نخيل" للنظر إلى الموضوع من جانب آخر ربما يكون أغفله الكثيرون.
وهنا أقصد ألا نلوم أزمة دبي ولا نلوم شركة نخيل لأن الإعسار أمر وارد ومحتمل، بل ننظر بعين المتبصر إلى الهيكلة الشرعية لصكوك "نخيل" التي اختبرت اختباراً جيداً في وقت الأزمة. فالأصل في الصكوك أنها حصة ملكية مشاعة في مشروع معين ولها عوائد توزع بشكل دوري. وحيث إنه من المفترض أنها إسلامية، فإن حملة تلك الصكوك باعتبارهم ملاكاً للمشروع، لا بد لهم أن يعلموا أنهم من الممكن ألا يحصلوا على عوائد من المشروع، وأنه من الممكن لهم أن يخسروا أيضا,ً وهذه هي روح وجوهر العمل المالي الإسلامي. لكن ما حصل من ردود أفعال لحاملي صكوك "نخيل"، أثبت أنهم بالفعل مجرد دائنين وليسوا ملاكاً، وعليه فقد شكلوا لجاناً استشارية للمطالبة بحقوقهم وأخرى قانونية لمواجهة الصراع المحتمل مع "نخيل". إن هذا السلوك، بلا شك يعكس نقطتين أساسيتين تمثلان تحدياً للعمل المالي الإسلامي وكينونته وهويته: الأولى، هي أن الهيكلة الشرعية للمنتجات المالية التقليدية حرفت الصناعة عن جوهرها وأفرغتها من محتواها حتى أصبح حامل الصك يتصرف كدائن دون تحمل أدنى قدر من المخاطر، الثانية أن المستثمرين الراغبين في دخول سوق التمويل الإسلامي لا يدخلونه لأنه (إسلامي) بل لأنه موجة أخذت تعلو شيئاً فشيئاً وعليهم ركوبها قبل أن تنحدر, ولذلك أيضاً هم تصرفوا بسلوك الدائن وليس بسلوك المالك. إننا هنا يجب أن نتوجه بنداء استغاثة لكل من يعمل في مجال الهيكلة الشرعية ونقول لهم بكل احترام: أنتم أعلم وأجل منا، ولكن عليكم أن تتقوا الله فينا وفي صناعتنا المالية الإسلامية، لأننا والله سوف نتعلق برقابكم في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون.
نظرة عامة على أزمة دبي
الغريب في الأمر، أن الجميع تناول أزمة دبي على أنها أزمة إدارة حكومية أخفقت في توقع المستقبل وتوسعت في اقتصاد الدين، وتناسوا أن المشكلة إنما تكمن في النظام الرأسمالي بحد ذاته. فنموذج دبي نموذج رأسمالي بحت يطبقها بحذافيرها, وما لحق بدبي من إخفاقات إنما يعود إلى خلل في النظام الرأسمالي وليس بالضرورة إلى إخفاقات الإمارة في إدارة اقتصادها. ولعل الكل يعلم أن مركز دبي المالي العالمي يضم عديدا من الخبراء الاقتصاديين العالميين من ذوي الباع الطويل والدراية والعلم. إن أزمة دبي لا تختلف كثيراً عن الأزمات التي حلت في أماكن أخرى أو في مؤسسات اقتصادية ومالية ضخمة. مشكلتها ببساطة التوسع في اقتصاد الدين، وهي مشكلة عامة يعانيها النظام الرأسمالي. فديون الإمارة تناهز 80 مليار دولار في حين أن استثماراتها بعد الأزمة المالية العالمية لم تعد تغطي قيمة تلك الديون. ورغم أن شركات الإمارة حاولت التنويع في الاستثمارات العالمية، إلا أن الاستثمار الأكبر لها كان في العقار، ولا سيما العقار الترفي في دبي ذاتها فظهرت مشاريع مثل أطول برج في العالم، والفندق الذي يقبع تحت الماء، والجزر الاصطناعية، ومدينة التزلج على الجليد رغم أن درجة الحرارة تزيد على 50 في بعض أيام الصيف, وغيرها من المشاريع المثيرة للجدل. أي نعم، كانت تلك المشاريع في وقت الطفرة جاذبة للاستثمارات الأجنبية حيث استثمر في دبي مشاهير العالم من أمثال ديفيد بيكهام وغيره، إلا أنها لم تكن في يوم ما ترتبط بالإنتاج الاقتصادي الحقيقي, وهنا وجه آخر للمشكلة.
لقد أدى عدم ارتباط النشاط الاستثماري المستند إلى الدين بالإنتاج الاقتصادي الحقيقي إلى وجود فجوة كبيرة بين النمو الاقتصادي الحقيقي وحجم الدين, وهذا كان من أهم أسباب الأزمة المالية العالمية وليس أزمة دبي فقط.
فالتوسع في الدين أو ما يعرف بالرفع المالي للأعمال (Leverage) من أهم ثوابت النظرية التمويلية الحديثة, وهو في مفهومه يتيح للأعمال التوسع والانتشار ولكن بتكلفة مالية أقل وهي تكلفة الدين. وما حصل إبان الأزمة أن مقدار التوسع في الدين كان أكبر بكثير من قيم الاستثمارات التي انخفضت فجأة نتيجة للركود الاقتصادي وشح السيولة, فأدى ذلك إلى وجود فوارق ضخمة بين الموجودات والمطلوبات. وهذا الأمر يعد من أهم الانتقادات التي يجب أن توجه للرأسمالية ونظريتها التمويلية.
ومن ناحية أخرى، لعب الطمع والجشع والأنانية الفردية التي ترسخها الرأسمالية في نفوس الأفراد من خلال حرية الأسواق وتكريس مفهوم المسؤولية الوحيدة لمديري الأعمال هي فقط تعظيم الربحية، دوراً كبيراً في بروز قطاعات أعمال تافهة تسعى فقط لتعظيم ثروات الأثرياء وتوسيع الهوة بينهم وبين الفقراء، وهذا ما يسجله تاريخ الرأسمالية بجلاء في كل الدول التي طبقتها. ولتحقيق الطمع والجشع في ظل حرية السوق، فتحت دبي أحضانها لكثير من المستثمرين والمستشارين الذين عززوا من هذا التوجه الجشعي في الإمارة، إضافة إلى مساندة بعض الشخصيات من الإمارة لذلك التوجه. ونتيجة لذلك ظهرت مشاريع في دبي لا يحتمل العاقل قبولها.
ومن الممكن أن يكون لانفتاح دبي جانب إيجابي من حيث جذب الاستثمارات، ولكن هذا الجانب كان من الأجدر أن يتعزز بتنمية الموارد البشرية لسكان الإمارة كي يواكبوا القادمين إليهم. لقد كانت ولا تزال هناك فجوة واضحة بين سكان الإمارة ومن جاءوا إليهم. وهو أمر انعكس بلا شك على فرض رؤى وطروحات القادمين على واقع الإمارة فأصبحت غربية وغريبة بامتياز, وكل ما يهم القادم إليها جمع المال مهما كانت الوسيلة. وإبان الأزمة هرب كثيرون منها, وهذا أمر بديهي، ليبقى سكان دبي هم الأكثر رسوخاً والأقدر على احتمال ما حل بإمارتهم والأحوج إلى تطوير قدراتهم, والتركيز عليهم ليقوموا على شؤونهم دون الحاجة إلى مستشارين من الغرب .