المياه ومحافظة الجموم

قبل نحو عام، كتبت هنا مقالة تحت عنوان ''من جدة إلى وادي فاطمة''، اقترحت فيها على الصديق والزميل الدكتور طارق فدعق، عضو مجلس الشورى ورئيس المجلس البلدي في جدة، أن ينظر المجلس في إمكانية الاستفادة من المشروع الذي كان قد أعلن عن إقامته لمعالجة مياه الصرف الصحي في جدة ثم تصريفها في البحر. اقترحت تحويل هذه المياه المعالجة ثلاثيا لري آلاف المزارع في منطقة خليص القريبة من جدة، ومنطقة الجموم في وادي فاطمة بدلا من هدرها في عرض البحر. فحاجة بلادنا إلى الاستفادة من كل قطرة ماء غدت أمراً ظاهراً، فهي واحدة من أكثر المناطق جفافا وصحراوية في العالم. وقلت إن الفكرة تستحق إعادة النظر وتحويل مجموع تكلفة هذا المشروع البالغة 90 مليون ريال ـ أو حتى زيادتها إذا تطلب الأمر - من أجل مد الأنابيب وإقامة محطات الضخ اللازمة لإيصال المياه إلى هذه المناطق. ويمكن بعد وصولها إلى تلك المناطق تكوين شركة من أصحاب المصلحة لإنشاء محطة توزيع يستفيد منها المزارعون، وغيرهم من المستثمرين في الصناعات غير الغذائية.
والحقيقة أن مسألة استخدام مياه الصرف الصحي ـ بعد معالجتها بالتقنيات الحديثة - في ري المحاصيل الزراعية الحقلية لترشيد استخدام المياه، هي واحدة من أهم التوصيات التي انتهت إليها المؤتمرات والمنتديات التي التأمت لمناقشة مشكلة ندرة المياه في منطقتنا، وجميعها أكدت خطورة المشهد وأوصت بضرورة وضع برامج إلزامية للمحافظة على هذه الثروة النادرة.
ومع ذلك، فلدى بعض الناس حساسية مفرطة من فكرة استخدام مياه الصرف الصحي بعد معالجتها ثلاثيا في أغراض ري المحاصيل. فقد كتب إليّ أخيرا المهندس فهد الشريف المشرف على الموقع الإلكتروني الرسمي لمحافظة الجموم، يخبرني بقيام الموقع بنشر مقالتي سالفة الذكر، ويطلب مني الرد وإثراء الحوار، حيث كتب أحد شباب المحافظة معترضا على فكرتي قائلا: ''بئس الرأي يأخذون ماء الوادي حلواّ ويعيدوه صرف صحيّ!''. وأنا أتفهم مشاعر أهل المحافظة الذين يرون أنه لولا سحب مياه وادي فاطمة إلى جدة خلال العقود الماضية، لكانت منطقتهم بخير ولما احتاجت إلى مياه غيرها. ورأيي لا يتعارض مع حاجة أهالي المنطقة إلى مدهم بأنبوب ماء محلى من محطات التحلية في جدة أو في الشعيبة، فهم أحق بذلك ولهم الأولوية في تزويدهم بما يحتاجون إليه من مياه محلاة. اقتراحي واضح، وهو أننا كبلد صحراوي يفتقر إلى المياه علينا أن نعمل بتوصيات الخبراء وأن نبدأ بالاستفادة من مياه الصرف الصحي المعالجة ثلاثيا في الري في أي مكان في المملكة، سواء في وادي فاطمة أو في غيره. والحقيقة أن الذي نبهني لهذه الفكرة وترجاني أن أكتب عنها هو أخي رجل الأعمال الأستاذ خالد زيني وهو أحد أبناء منطقة وادي فاطمة ومن المهتمين بمصالحها.
من ناحية أخرى، حظيت مقالتي بمداخلة موضوعية قيمة من المهندس مازن الحربي، سجلها أيضا على موقع محافظة الجموم. وقد أيد الفكرة بيد أنه تساءل عن مدى وجود ضمانات على أن هذه المياه قد عولجت فعلا معالجة ثلاثية وفق معايير المنظمات العالمية. فقد تخوف من احتمال تأثير هذه المياه غير مكتملة المعالجة سلبيا في مستخدميها من النباتات والمواشي، أو في الخزانات الجوفية التي قد تتسرب إليها تلك المياه. وذكر أن الذي يعلمه هو أن جميع محطات المعالجة في جدة لا تعالج مياه الصرف ثلاثيا بكفاءة عالية بسبب ضعف عمليات التشغيل والصيانة. بل إن الأمر وصل إلى أن هذه المحطات عجزت في بعض الأوقات حتى عن المعالجة الثنائية. لكن المهندس الحربي يتفق مع الفكرة قائلا: إنه إذا وجد الضمان لوصول هذه المياه إلى المستفيدين وهي معالجة ثلاثيا، عند ذلك فإنها تحتاج إلى عملية حقن في أحواض المياه الجوفية عند أسفل الأودية ثم ضخها من نقاط تبعد عن نقاط الحقن بمسافة معين. وفي هذه الحالة نكون قد عالجنا المياه رباعيا، وعندها يمكن القول إن هذه المياه تشكل مصدرا مهما من مصادر المياه غير التقليدية الذي يمكن استغلاله في استعمالات عديدة ملائمة. وهذا المنهج معمول به في أمريكا في ولاية كاليفورنيا، ومعمول به أيضا في مدينة الرياض، حيث تنقل المياه المعالجة ثلاثيا عبر الأنابيب إلى منطقة ديراب والدرعية لاستخدامها في الزراعة.
يبدو أن محافظة الجموم في حاجة إلى مشاريع بنى تحتية عديدة وإلى برامج تنموية تشجع سكانها على الاستقرار فيها. لقد بدأنا أخيرا نشعر بضرورة الاهتمام بمنهج التنمية المتوازنة في جميع مناطق البلاد، ولعل محافظة الجموم تجد نصيبها في ذلك. فالأمر الذي لا مراء فيه هو أن نقص الخدمات سيدفع إلى استمرار الهجرة من هذه المناطق إلى المدن الكبيرة مع ما تولده هذه الهجرات من ضغوط كبيرة ومكلفة على الخدمات العامة في المدن الكبرى مقارنة بتكلفتها لو أنشئت في المدن الصغيرة وفي القرى. المياه ثروة نادرة وغالية، وما عاد وضعنا الحرج يسمح بهدر أي كمية منها.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي