غرامات التأخير: أنواعها ومشروعيتها (2)

تحدثت في الحلقة السابقة عن غرامات التأخير فتطرقت إلى واحدة منها، واليوم أتطرق إلى النوع الثاني من غرامات التأخير وهو يتعلق بحالة كون محل الالتزام مبلغاً من النقود، وكان معلوم المقدار وقت الطلب وتأخر المدين عن الوفاء به في الموعد المحدد, فإنه يلتزم بأن يدفع للدائن على سبيل التعويض عن التأخير فوائد تحدد عادة العديد من الأنظمة القانونية حدها الأعلى بحيث لا يجوز للمتعاقدين الاتفاق على تجاوزها. ويسمى هذا النوع من الغرامات في المصطلح القانوني (الفوائد التأخيرية). واختلف الفقه الإسلامي المعاصر حول شرعية هذا النوع من غرامات التأخير (الفوائد التأخيرية). ونوجز أبرز الآراء الفقهية في هذا الشأن على النحو التالي:
أولاً: يذهب بعض الفقهاء إلى عدم جواز هذا النوع من الغرامات باعتبارها تمثل زيادة في الدين بغير مقابل، فهي من الربا المتفق على تحريمه أخذا بقوله تعالى: (وأحل الله البيع وحرم الربا).
ولقد نظر مجلس المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي في دورته الـ 11 المنعقدة في مكة المكرمة في الفترة من يوم الأحد 13 رجب 1409هـ الموافق 19 شباط (فبراير) 1989 إلى يوم الأحد 20 رجب 1409هـ الموافق 26 شباط (فبراير) 1989 في موضوع السؤال التالي: (إذا تأخر المدين عن سداد الدين في المدة المحددة، فهل له - أي بنك - الحق بأن يفرض على المدين غرامة مالية جزائية بنسبة معينة، بسبب التأخير عن السداد في الموعد المحدد بينهما؟).
وبعد البحث والدراسة، قرر مجلس المجمع الفقهي بالإجماع ما يلي:
(أن الدائن إذا شرط على المدين أو فرض عليه أن يدفع له مبلغاً من المال غرامة مالية جزائية محددة أو بنسبة معينة إذا تأخر عن السداد في الموعد المحدد بينهما، فهو شرط باطل، ولا يجب الوفاء به، بل ولا يحل، سواء كان الشارط هو المصرف أو غيره، لأن هذا بعينه هو ربا الجاهلية الذي نزل القرآن بتحريمه).
ولقد أخذ القضاء السعودي بهذا الاتجاه الفقهي، ونضرب على ذلك مثلاً بحكم الدائرة التجارية التاسعة بديوان المظالم في جدة رقم 81/د/ت/ج/9 لعام 1410هـ في القضية رقم 84/2/ق لعام 1409، حيث رفضت الدائرة الموقرة طلب المدعي إلزام المدعى عليه بدفع مبلغ غرامة التأخير المتفق عليها لعدم وفاء المدعى عليه بثمن الرخام الذي ورده المدعي للمدعى عليه في المواعيد المحددة. وقد أسست الدائرة الموقرة رفضها لهذا الطلب على أن شرط الغرامة المذكورة يعتبر صورة من الصور الربوية.
ثانياً: تذهب ثلة من الفقهاء ومنهم الدكتور مصطفى أحمد الزرقاء، يرحمه الله، إلى جواز هذا النوع من غرامات التأخير بالشروط التالية:
1- إذا كان المدين المماطل موسراً.
2- ألا يكون للمدين معذرة شرعية في تأخير الوفاء بالدين.
3- أن يقدر القضاء مقدار التعويض الذي يستحقه الدائن مقابل تأخر المدين في الوفاء، حيث لا يجوز الاتفاق مسبقاً بين الدائن والمدين على تحديد ضرر الدائن من تأخير الوفاء.
4- أن تحدد المحكمة مقدار الضرر والتعويض عنه بما فات الدائن من ربح معتاد في طرق التجارة العامة بأدنى حدوده العادية, أو أنه قبض دينه في موعده واستثمره بالطرق المشروعة الحلال ولا عبرة لسعر الفوائد المصرفية. وتعتمد المحكمة في هذا التقرير رأي أهل الخبرة في هذا الشأن.
ويستند أصحاب هذا الاتجاه الفقهي إلى أسانيد شرعية عديدة, منها قوله تعالى (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل). وأن المال يشمل المنافع فقهاً، ولا يقتصر مفهومه على الأعيان في نظر جمهور الفقهاء. وأن تأخير أداء الحق المستحق عن موعده الواجب بلا عذر شرعي هو أكل لمنفعة الحق أو المال بلا إذن صاحبه مدة التأخير, ويوجب مسؤولية الآكل. وقوله - صلى الله عليه وسلم - (مطل الغني ظلم) وقوله - عليه الصلاة والسلام - (ليّ الواجد ظلم يحل عرضه وعقوبته) وقوله عليه الصلاة والسلام (لا ضرر ولا ضرار).
وقد أيد هذا الاتجاه الفقهي الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع، عضو هيئة كبار العلماء في المملكة - في بحثه القيم (مطل الغني ظلم يحل عرضه وعقوبته) المنشور في مجلة البحوث الفقهية المعاصرة، العدد (12) الصادر سنة 1421هـ، حيث يقول (ولا شك أن المماطل في حكم الغاصب بمماطلة أداء الحق الواجب عليه إلا أن تقدير الزيادة عليه يجب أن يراعى في تعيينها العدل فلا يجوز دفع ظلم بظلم ولا ضرر بضرر أفحش منه).ويوضح الشيخ عبد الله بن منيع الفرق بين الفائدة الربوية وغرامة التأخير في هذه الحالة قائلاً (إن الزيادة الربوية اتفاق بين الدائن والمدين لقاء تأجيل السداد فهي زيادة في مقابلة الإنظار لزمن مستقبل وعلى سبيل التراضي، فالمدين لا يسمى في هذه الحال مماطلاً ولا معتدياً ولا ظالماً بسبب تأخيره في سداد حق دائنه، بينما الزيادة على حق الدائن في مقابلة الليّ والمطل بغير حق ضمان لمنفعة محققة أو محتملة فات حصولها بسبب المماطلة بغير حق وعقوبة على المدين المماطل لكونه بمطله وليه بغير حق ظالماً ومتعدياً ومفوتاً منفعة دائنه المحققة أو المتوقعة باحتباس حقه عنده بدون حق، فهي زيادة لم تكن موضع اتفاق على اعتبار التأخير في مقابلتها، وإنما هي في مقابلة تفويت منفعة على سبيل الظلم والعدوان بالمماطلة، وهي كذلك عقوبة اقتضاها اللي والمماطلة).
كما أخذت ندوة البركة الفقهية للاقتصاد الإسلامي (الندوة الثالثة) بمبدأ جواز إلزام المدين المماطل في الأداء، وهو قادر على الوفاء، بتعويض الدائن عن ضرره الناشئ عن تأخر المدين في الوفاء بدون عذر مشروع، حيث جاء نص فتواها على النحو التالي:
1- يجوز شرعاً إلزام المدين المماطل في الأداء وهو قادر على الوفاء بتعويض الدائن عن ضرره الناشئ عن تأخر المدين في الوفاء دون عذر مشروع، لأن مثل هذا المدين ظالم، قال فيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - (مطل الغني ظلم) فيكون حاله كحالة الغصب التي قرر الفقهاء فيها تضمين الغاصب منافع الأعيان المغصوبة علاوة على رد الأصل، هذا رأي الأغلبية.
وهناك من يرى أن يكون الإلزام بهذا المال على سبيل الغرامة الجزائية استناداً لمبدأ المصالح المرسلة، على أن تصرف الحصيلة في وجوه البر المشروعة.
2- يقدر هذا التعويض بمقدار ما فات على الدائن من ربح معتاد كان يمكن أن ينتجه مبلغ دينه لو استثمر بالطرق المشروعة خلال مدة التأخير.
وتقدر المحكمة التعويض بمعرفة أهل الخبرة تبعاً لطرق الاستثمار المقبولة في الشريعة الإسلامية، وفي حالة وجود مؤسسة مالية غير ربوية في بلد الدائن (كالبنوك الإسلامية مثلاً) يسترشد بمتوسط ما قد حققته فعلاً تلك المؤسسات من ربح عن مثل هذا المبلغ للمستثمرين فيها خلال مدة التأخير.
3- لا يجوز الاتفاق بين الدائن والمدين مسبقاً على تقرير هذا التعويض كي لا يتخذ ذلك ذريعة بينهما إلى المراباة بسعر الفائدة.
كما أصدرت ندوة البركة السادسة فتوى أخرى تنص على أنه (يجوز اشتراط غرامة تأخير كرادع للمماطلين القادرين على السداد على أن تنفق حصيلة هذه الغرامات على وجوه الخير، وفي حالة تحقق ضرائب مباشرة على الدخل المتأتي من هذه الغرامات يحق للبنك أن يحمِّلها بها).
وفي تقديري أن تفشي المماطلة في أداء الحقوق وتنوع أساليبها أصبحت ظاهرة خطيرة زعزعت مبادئ حسن النية والثقة والصدق والوفاء في المعاملات المالية بين الناس, وأدت إلى إرهاق الدائنين من أمرهم مشقة وعسراً وضرراً، كما أن بطء سير إجراءات التقاضي وتنفيذ الأحكام القضائية زاد من عناء ومشقة استحصال الحقوق، الأمر الذي يجعلني أميل إلى الاتجاه الفقهي الذي يجيز إلزام المدين الموسر المماطل في الأداء، بتعويض الدائن عن ضرره الناشئ عن تأخر المدين في الوفاء، لأنه يقوم من وجهة نظري على أسانيد شرعية معتبرة ومسوغات وجيهة. لأنه - كما قال الدكتور مصطفى الزرقاء - (إذا تساوي معطي الحق ومانعه، أو معجله ومؤخره كان هذا مشجعاً لكل مدين أن يؤخر الحقوق ويماطل فيها بقدر ما يستطيع ليستفيد من هذا الظلم أكبر قدر ممكن دون أن يخشى طائلة أو محذوراً، ما دام لن يؤدي في النهاية إلا أصل الحق. وهذا خلاف مقاصد الشريعة وسياستها الحكيمة قطعاً). أما كيف يقدر الضرر الذي يلحق بالدائن ومقدار التعويض المقابل له فأرى أن هذه المسألة إما أن يقدرها ولي الأمر في نصوص نظامية آمرة أو يترك أمر تقديرها للمحكمة المختصة. وأحبذ أن يحسم تقديرها في نصوص نظامية قطعاً لدابر الاختلاف في هذا الشأن.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي