حين دمعت عينا سلطان بن عبد العزيز
لم يغبْ عن ذاكرتي يوماً ذلك الموقف المهيب حين وقفت ُ بين يدي الأمير سلطان بن عبد العزيز - أمدَّ الله في عمره على طاعته - وكنت وقتها أعمل لدى سموه الكريم، وقدمت له خطابا كتبه أحد المواطنين من كبار السن يطلب مساعدة الأمير في علاج ابن له أصابه مرض السرطان, وكان مما جاء في ذلك الخطاب قول الرجل واصفاً حاله: ''إنه طفل في عمر الزهور، بينما أنا أراه يحبو أمامي ويناديني بلغة طفولية : بابا .. بابا؛ إذ به يفاجئه مرض السرطان، لتتحول به حياتي إلى جحيم وعذاب ودموع ..'' فما إن وصل إلى هذه العبارة حتى رأيتُ عينيه تدمعان، وإذ به يتناول قلمه, الذي طالما كان أول رسول ٍ يُبلِّغ عن الأمير مكارمه وصدقاته وإحسانه، ويكتب عبارة ً حفظتُها عن ظهر قلب, حيث كتب سموه: ''يُبلَّغ الملحق العسكري في لندن بأن استكمال علاجه ومصروفاته وحاجياته على حسابنا ويسدد دين والده كاملاً وفوراً ..''.
وقد وردت عبارة استكمال العلاج في توجيه سموه، لأن والد الطفل مع فقره وضعف حاله وأنه كان موظفاً بسيطاً، حين أصيب ولده بالسرطان بادر من شدة خوفه عليه بالسفر به إلى لندن وإدخاله أحد المستشفيات لعلاجه واستدان لذلك مبالغ مالية طائلة من أقاربه ومع ذلك فقد نفدت قبل إجراء العملية الجراحية المقرر له، فلم يجد له من ضائقته باباً يطرقه بعد الله - سبحانه - إلا باب سلطان بن عبد العزيز. فكان أن جاءه الفرج بأسرع مما كان يأمل وما هي إلا 24 ساعة حتى كان المبلغ كاملا في حسابه سداداً لدينه, حتى إن المبلغ الذي سبق له دفعه للمستشفى في بريطانيا أعيد إليه كاملاً غير منقوص. وها هو المريض الذي كان طفلاً بالأمس يقف اليوم مستقبلاً والده سلطان بن عبد العزيز، بعد أن ذرف ومعه أبوه وأهله دموعاً غزيرة على فراق والدهم سلطان فبادلوا سموه دموعا غزيرة ودعوات صادقة ومشاعر شوق، مثلما ذرف سموه الدمع الغالي الطاهر رقَّة ورحمة لحالهم.
وما هذا الموقف إلا قطرة في بحر جود ِ سلطان الخير، ولو اجتمع الرواة على نقل قصص جود ومعروف سموه لأعياهم ذلك، وما خفي من إحسان سموه أعظم مما بدا وظهر، فله مع كل ّ قلب قصة ُ حب، وله في كل بيت مشاعرُ شوق، ويكفي أن تسألوا عن سلطان الخير شاهدين عدلين لا يكذبان ولا يُكذَّبان (الطفولة والإعاقة).
إن قلوب الملايين من الناس كانت تشعر بالغربة والألم وفقد الأمان منذ غادر سلطان بن عبد العزيز أرض الوطن. كانت قلوبنا وقلوبهم ومشاعرنا ومشاعرهم كالأيتام بعد فقد عائلهم، وما هدأت القلوب، وسكنت المشاعر، وارتاحت النفوس، وقرّت العيون، إلا حين عاد إليها طائر ُ السعد وفارس الإحسان سلطان الخير.
كان سلطان بن عبد العزيز بعد الله - عز وجل - أماناً لكل خائف، ملجأ لكل محتاج، مفزعاً لكل مكروب. يبعث الأمن والسكينة في النفوس عبر ثغره الباسم ومحياه البشوش، ثم يوالي ذلك بعطائه وإحسانه وكرمه، كالغيث أول ما يبدأ بالبرق والغيم ثم يسقي الأرض والنفوس العطشى.
أعلم أني حين أكتب هذه السطور ستكون ملايين الكلمات سبقتني في سرد مآثر سموه وتعداد فضائله والترحيب بقدومه الميمون، غير أني أجد فريضة عين على كل حامل قلم أو خطيب منبر أن يسهم بالترحيب بسلطان بن عبد العزيز، الذي عاد إلى الوطن وهو لم يفارق القلوب يوما أو لحظة، لقد سكن سلطان بن عبد العزيز قلوب الناس في هذه البلاد وفي غيرها، وتملكها بمعروفه وإحسانه ملكاً لا يحتاج إلى بينة ولا وثيقة ولا شهود، لأن بينته في عينيه، ووثيقته في كرمِ يديه، وشهوده في قلوب وألسن من أغاثهم ومن أحسن إليهم.
ها هو الوطن اليوم يا سلطان يخرج إليك بالقلوب قبل الأبدان ليحيي مقدمك الميمون، ويزف موكبك المبارك، وها هي العيون والقلوب تتابع مشاهد الفرح الكبير لهذا الوطن، ويرون قائدهم خادم الحرمين الشريفين يكون في مطلع المرحبين المستقبلين لقدومك، حامدين لله شاكرين، على ما من َّ به عليهم أولا بعودتك لتملأ فراغاً كبيراً تركته بعد سفرك، لا طاقة لأحد في الدنيا أن يملأ جزءاً منه غيرك. ويحمدون الله - سبحانه -على ما أسبغ عليك من لباس العافية والسلامة بفضله وكرمه عز وجل ثم بدعوات ِ المحبين الصادقين لك يا سلطان, ما بين ملوك وأمراء, وقادة ووجهاء, وعلماء وعُبَّاد, وضعفاء ومساكين, وأرامل وأيتام.
إن الموكب الذي استقبلك وصافحك ورافقك إلى قصرك العامر, ليس إلا موكبا من ملايين المواكب التي عمرتْ بها القلوبُ من كل أصناف البشر, وطوائف الناس, لا أحد يحصي هذه القلوب التي استقبلتك بالدموع والبشرى مع عدم قدرتها على الوصول إلى أرض المطار حيث يحط طائر السعد والأمان في أرض الوطن, إنها قلوب المرضى الذين لم ينقطع عنهم علاجك, وقلوب المشردين الذين أصبحوا يستظلون بظل البيوت التي اشتريتها أو أمرت ببنائها لهم, وقلوب المعوقين والمقعدين الذين قاموا يمشون بفضل الله ثم بمساندتك لهم.
سيدي سلطان: أنت رجل الوفاء, علَّمت َ الناس الوفاء بفعلك وقولك ومواقفك, فتعلمه منك الصغير والكبير, وبالأمس يا سلطان الخير, كنت َ تلازم إخوانك من الملوك السابقين, وترافقهم في كل رحلاتهم العلاجية فكنت محباً ملازماً للملك فيصل - رحمه الله -حتى ظهر أثر حبك له في حديثك الدائم عنه وروايتك لقصصه ومواقفه, وحبك لأبنائه, وتمثلك لمبادئه, وسيرك على نهجه.
ومن بعده كنت مرافقاً للملك خالد -رحمه الله - حتى كنت تناوله علاجه وتحني ظهرك بين يديه, ثم كنت مع خادم الحرمين الشريفين الملك فهد - رحمه الله - المرافق والرفيق والأخ الحاني, فكنت تسهر الليل بقربه, وتشرف بنفسك على حاله.
واليوم أثمر غرسُك وطاب ثمر وفائك, ورأينا جميعاً كيف رافقك أخوك ورفيق دربك, وشقيقك وشريكك في صفات البر ِّ والإحسان, الذي أعطى لنا درساً عمليا في الوفاء وحب الأخ لأخيه, سلمان بن عبد العزيز أمير الرياض الذي غاب عنها طويلاً مع حبه الكبير لها, لأن حبَّه لسلطان لا يعادله حب. غاب عنها بجسده وإن لم يغب عنها بقلبه واهتمامه ومتابعته الدقيقة لحاجاتها, وخلَّف عليها القوي الأمين سطام بن عبد العزيز الذي تفانى في أداء الأمانة وحمل المسؤولية فضاعف الجهود وحث َّ المسير, واستكمل خطوات العمل والإصلاح.
فجزاكم الله جميعاً عنا خير الجزاء, وجعلكم خير عون لولي أمرنا خادم الحرمين الشريفين - أمد الله في عمره على طاعته - في رعاية شؤون هذه البلاد الطاهرة والقيام بمصالح أهلها وحفظها من كل مكروه, وصيانتها من كل خطر.
سيدي سلطان: عِش حميداً, - بإذن الله - عمراً مديداً, وبفعلك الخير والمعروف هانئاً سعيداً, فكما دفعت عن الناس الكروب, وفرّجت بإذن الله الهموم, فنسأل الله - سبحانه - أن يبقيك للوطن درعاً حصينة, ولأخيك خادم الحرمين الشريفين ملك الإنسانية عضداً وساعداً وعوناً, ولكل قلب محب لك مصدر هناء وسعادة.
اللهم آمين . والحمد لله أولا وآخرا.