سيل جدة العرم .. مثال لغياب التفكير النظمي
الكارثة كبيرة ومدوية، مئة شهيد ونيف ويزيد عنهم جرحى ومرضى وبلايين الريالات من الخسائر المادية ودمار مجلجل والآلاف تركوا منازلهم، وردود الفعل كثيرة وغاضبة والاتهام بالتقصير والتلاعب وخيانة الأمانة، يساق بلا ريث ولا لباقة، والحقيقة الجامحة بات خطامها بيد المنصف العادل خادم الحرمين الشريفين، فتفاعله وفقه الله كان بحجم دوره كراع للوطن وأهله ومن يقيم على أرضه، والعزاء كل العزاء كان بوقفته مع الثكالى والمحزونين وتمثله معاناتهم وما أصدق من قوله ''وإنه ليحز في النفس ويؤلمها أن هذه الفاجعة لم تأت تبعاً لكارثة غير معتادة'' وعزمه رعاه الله على محاسبة من تثبت مسؤوليته عن تقصير أو تهاون، حيث يقول ''فإنه من المتعين علينا شرعاً التصدي لهذا الأمر وتحديد المسؤولية فيه والمسؤولين عنه - جهات وأشخاصاً - ومحاسبة كل مقصر أو متهاون بكل حزم دون أن تأخذنا في ذلك لومة لائم'' هذا الموقف العظيم للرجل العظيم، هو ما يسكّن من روع المفجوعين ويستجيب لاستغاثة المنكوبين، فقرار النفوس يكون بتحديد ومعاقبة المتسببين بفاجعتهم، وتقدير لتضحية الشهداء من أن تذهب حياتهم دون أن يحاسب من سبب هلاكها. ولكن وقبل أن تتكشف حقائق المذنبين، أريد أن أضع أول متهم في القائمة، هذا المتهم هو دائماً متهم مشترك في كل الكوارث يثخن جراحها ويضاعف أضرارها، إنه محصلة الإقلال والتواكل والتواني.
تحدثت في مقالي السابق عن التفكير النظمي وما يمكن أن يكون له من تأثير على ثمرة العمل الحكومي، وأنا اليوم غير بعيد عن إضافة لذلك، فالتفكير النظمي يحفز المسؤول على العمل بصورة فاعلة ودارئة للكوارث خصوصاً، فتجنب الكوارث يبدأ في الإعداد لها وتمثيل وقوعها واستنتاج أضرارها ووضع الخطط لإدارتها والتقليل من دمارها البشري والمادي، نعم أكثر الكوارث الطبيعية تحدث بسرعة وعلى حين غرة، ولكن للكوارث الطبيعية نمطية تتماثل مهما اختلفت مسبباتها سواء أكانت زلازل أم فيضانات أو أعاصير وبراكين والوعي بتلك النمطية يمثل البداية في تجنب أو تقليل أثر تلك المسببات بما يمكّن من إدارة الوضع الكارثي، فمثلاً لا يخفى على جهة كالأرصاد وحماية البيئة احتمالية أن تتعرض مدينة كجدة لهطول كمية من الأمطار تفوق المعدل بما يزيد على الضعف ويمكنها توفير تلك المعرفة بصورة متاحة، كما لا يخفى على هيئة كهيئة المساحة الجيولوجية الطبيعة الطبوغرافية لما يحيط بمدينة جدة من تكوينات وتضاريس تجعل من المدينة ممرا أو مستقرا لسيل عرم، إذا ما تعرضت المنطقة لأمطار غزيرة ويمكنها توفير تلك المعرفة بصورة متاحة، كما لا يخفى على أمانة مدينة جدة طبيعة المدينة وتكوينات مرافقها وقدرات شبكات تصريف سيولها وكونها لا تتحمل سيناريوهات السيل العرم، وكونها على علم بتعديات على مجاري مياه السيول وأوديتها الطبيعية ، كذلك الدفاع المدني والذي توكل له مهمة الإنقاذ وإدارة أزمة الكوارث يدرك أن لديه قدرات محدودة وتجهيزات لا تتناسب مع سيل عرم، كما أن المواطنين على اختلاف قدراتهم المعرفية والمهارية لديهم العلم بتضاريس المدينة وكوامن الضعف فيها لو تعرضت لسيل عرم، ومع ذلك ورغماً عن تلك المعرفة ينطلق منهم الآلاف للتكدس في مناطق الضعف سكناً وارتياداً. هذه حقائق لو وضعت أمام عاقل بصورة متكاملة لهّم بوضع خطط احترازية، ولكن محصلة التواني والتواكل والإقلال لعبت دورها في ذهنية الجميع فالإقلال من شأن الأثر الكارثي جعل الجميع يهمل الإعداد، أو حتى التنبيه لاحتمالية الكارثة لمن يجب عليه الاستعداد، والتواكل جعل الجميع يتخلى عن المبادرة بالإعداد أو حتى التنبيه لاحتمالية الكارثة، والتواني جعل الجميع يهمل وضع الخطط الاحترازية أو ذيلها بأولوياته العملية.
إن كل مدينة مكتظة في العالم هي ضحية محتملة لظواهر بيئية أو صحية أو طبيعية، ولطبيعة التكديس الذي يحدث للأنفس البشرية والموجودات الرأس مالية تتهيأ البيئة المحققة للكارثة إن تعرضت المدينة لظاهرة قاسية، وفي كثير من المدن المتحضرة هناك خطط لمواجهة الكوارث تتمثل في ابتداء وضع إنذار مبكرearly warning system يعتمد على الاستقراء المستمر والتحليل للمعلومات البيئية والطبيعية من مصادر متعددة وموثوقة ونظام إعلام طارئ للعمومpublic emergency broadcasting system يتولى دمج جميع الأجهزة الإعلامية والأنظمة الصوتية في المدينة مثل (التلفزيون، الإذاعة، الأنظمة الصوتية في المساجد، والمدارس، والأسواق) في نظام واحد للتوجيه والتعريف للعموم، ثم وجود خطة إخلاء لكل منطقة سكنية في المدينة حيث يتم توجيه السكان لمواقع إخلاء محددة ومعرفة سلفاً لتسهيل نقلهم لمناطق أكثر أمناً وذلك للحد من كارثية الأضرار البدنية، ويكون لدى المدينة أدوات وإمكانات يسهل توفيرها في زمن قياسي فكل حافلة في المدينة أو معدة فنية هي رهن الملكية العامة وإدارة المدينة عند إعلان حالة الطوارئ وتتولى الشرطة توجيه تلك الإمكانات بصورة منتظمة مخططة سلفاً، كما أن لدى المدينة خططا مسبقة عند مواجهة ظواهر طبيعية تفوق قدرة مرافقها على تعديل هيكلية المدينة الطبوغرافية بفتح قنوات داخل الأحياء وربما هدم منازل وتجريف شوارع لتقليل الأثر الكارثي على الممتلكات. فهل كان لدى مدينة جدة خطة طوارئ متكاملة؟، لا أعتقد وسبب ذلك هو التفكير غير النظمي الذي تحكمه ثلاثية الإقلال والتواكل و التواني .
كل الأجهزة المعنية بخلق معرفة أو نشاط كان من شأنه تقليل الأثر الكارثي لمدينة جدة ملامة و معذورة في الوقت ذاته فهي ملامة لسيطرة محصلة ثلاثي الإقلال والتواكل والتواني على منهجها الخدمي، وهي معذورة لعدم وجود جهاز منظم لعملية التخطيط والإعداد لدورها في منظومة الطوارئ الخاصة بالمدينة، وهنا يطرح السؤال التقليدي ''إذاً، من يعلق الجرس؟''، لاشك أن مسؤولية وضع خطة طوارئ لكل مدينة كبيرة في المملكة يجب أن تكون منوطة بمحافظ المدينة، وتكون جزءاً من واجباته التي يحاسب عليها، وعليه تكوين جهاز إداري يتولى إدارة وضع دراسة شاملة لاحتمالية الظواهر الطبيعية والبيئية المؤثرة في مدينته واحتمالية قسوتها لتكوين ظاهرة كارثية، ثم وضع خطة طوارئ تشتمل على نظام إنذار مبكر ونظام إعلام طارئ للعموم وخطة ومرافق وسياسة إخلاء للسكان وخطة وسياسة حماية للممتلكات. إن مبادرة المحافظين في المدن السعودية لذلك، ستكون نتيجة لبداية انتهاج التفكير النظمي في العمل الحكومي وتحسين الخدمات والحماية التي تقدمها الدولة للمواطنين والمقيمين.