أبعاد سياسية «لتمرد» اليمن و«التسلل» للسعودية و«الدور» الإيراني
لم ينتج التمرد في إقليم صعده بسبب إشكاليات اليمن الداخلية. فصعوبات اليمن الاقتصادية والاجتماعية والسياسية قد توجد «مناخ» من عدم الاستقرار، ولكنها لا تسمح بوجود مثل هذا التمرد المنظم والقوي. والحقيقة أن هناك سببان رئيسيان ومباشران وراء هذا التمرد: أولها، سعي زعامة التمرد إلى الحكم والسلطة بالقوة وانحرافها بأيديولوجية متطرفة (تتناقض مع «اعتدال» اليمن) لتحقيق ذلك. وقد حاولت الحكومة اليمنية لسنوات «استيعاب» زعامة التمرد، تخلل ذلك جولات من التفاوض والمصالحة والمواجهة، إلى أن انتهى الأمر بأن «حزمت» القيادة اليمنية – بحسب تصريحات رئيسها المتكررة – أمرها وقررت مواجهة هؤلاء المتمردين بحسم إلى أن يخضعوا لسيادة وشروط الدولة. ومن المسلم به أن لا تقبل أي دوله بأن ينازعها أي طرف محلي أدنى أمور السيادة، فكيف إذا قام بابتزازها ومواجهتها عسكريا وتهديد كيانها.
وثانيها، وهو الأكثر تأثيراً، «تدخل إيران السافر» ودورها في « تشكيل وتمكين حركة التمرد». فإيران استغلت ظروف وخلافات اليمن، وسعت لمد نفوذها بإيجاد «موطئ قدم» استراتيجي لها في جنوب الجزيرة العربية (مع اعتبار تواجدها الآخر في «اريتريا» بقرب مضيق باب المندب الحيوي). وقد وجدت ضالتها في خلاف الحكومة اليمنية مع المجموعة التي تشكل التمرد بينها، فاحتضنت زعامة المجموعة مبكراً، و«غذت» حركة التمرد «فكرياً ومادياً وعسكرياً» وحولتها «لتنظيم عقائدي مؤدلج ومسلح» تسيطر هي «عملياً» على أجندته، ليكون ورقة في يدها – من ضمن أوراق أخرى – توظفها لخدمة أجندتها السياسية/المذهبية الهادفة بوضوح للسيطرة الإقليمية. والأدلة كثيرة وقاطعة – ولا زالت تتراكم – على تورط إيران (وامتداداتها الإقليمية) ودورها الرئيسي فيما يحدث.
وللأسف فإن الحكم الإيراني الحالي، بفعل استمرار نفوذ «نخب مؤدلجة» في الحكم، لازال أسيرا لبعض الأفكار «البائدة والمتطرفة» للثورة الإيرانية (والساعية إلى «تصدير الثورة» ومد نفوذها المذهبي/السياسي). وهذه النخب «المتعالية» «حصرت» طريقة الحكم الحالية في «دوامة من المزايدة في التشدد والعسكرة والعدوانية»، واستندت للمحافظة على بقائها وتأييدها الشعبي على الشحن العاطفي «الغوغائي» وعلى تضخيم «عقدة تآمر الآخر» والمبالغة في «تقمص دور الضحية»، فضيع هذا الحكم «البصيرة» المطلوبة «لإدراك وتدارك» مخاطر وتبعات سياساته، وحرم السياسة الإيرانية «المرونة والتوازن» اللازمان للتعايش مع الجوار وتحقيق التنمية «الحقيقية» للمجتمع الإيراني.
ولتغطية أجندته التوسعية، «استمرأ» الحكم الإيراني الحالي «الحروب الدعائية» القائمة على الكذب والاتهام ومهاجمة الآخرين والتظاهر بالحرص على السلام ومصالح «المسلمين». وخير مثال على ذلك، هو تصريحات مسئوليه الأخيرة (و«تحذيراتهم!») لدول الجوار – ويقصدون السعودية – من «التدخل في شئون اليمن الداخلية» و» إشعال نيران الحروب التي سيصيبهم دخانها» و «قتل المسلمين في الأشهر الحرم» واتهامهم «الوهابية» بالعدوان والطائفية. وهذه «صَفَاقَةُ» مُضَلِلَة (قل نظيرها)، وقَلْبٌ «فَجٌ» للحقائق. ولو تأمل هؤلاء المسئولون – بصدق نية – تصرفاهم في «المرآة» لعرفوا أنهم أولى بتعليقاتهم، وأبقوها لأنفسهم. فالحكم الإيراني الحالي – وبعكس دعايته الصاخبة والمضللة – هو حقيقة من يُؤَجِجْ، بسياساته المندفعة وبتدخلاته «الخبيثة»، الصراعات المذهبية والسياسية في المنطقة.
وما يزيد الأمر سوءاً، ويشكل خطورة، هو أنّ تخوف الحكم الإيراني الحالي من «تآكل شرعيته»، نتيجة توسع المعارضة الداخلية لحكمه وتدهور الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية بفعل سوء إدارته وتورطه «المُكْلِفْ» في أزمات إقليمية ودولية، قد يدفع قيادته المتشددة لمزيد من الافتعال والتصعيد للأزمات الخارجية سعياً لتخفيف الضغط عليها وصرف انتباه الداخل الإيراني وتعزيز موقعه بكسب التأييد الداخلي. ويلمس المراقب مؤشرات ذلك في تصعيدها لتمرد اليمن واستهدافها السعودية والعودة للتهديد «بتسييس الحج» و تعكير صفو أمن الحجيج (الذي نسأل الله أن يحفظه ويوفق القائمين عليه).
والحقيقة هي أن عدائية متمردي صعده – المدفوعين من إيران – للسعودية وإجرامهم ظهرت بوادرها من السابق. وذلك بتحريضهم الإعلامي وتهجمهم المؤدلج على السعودية، وباحتضانهم لمجموعة من «الباغين المخربين» المتأثرين بفكر القاعدة الضال (وذلك رغم التناقض الأيديولوجي بينهم!)، وبانطلاق عمليات اغتيال وتخريب من منطقتهم وبدعمهم (أفشلها الله بتوفيقه وعنايته)، وانتهاءً بعدوانهم السافر الحالي (الذي من الواضح أنه تم التخطيط والإعداد له من فترة طويلة).
ولعل المتمردين (ومن ورائهم) توهموا أن عملية التسلل «البائسة» في حدود السعودية «تخلط الأوراق» لصالحهم، وتفتح جبهة جديدة تخفف عنهم ضغط هجمات الجيش اليمني وتخلق خلاف سعودي- يمني، وتوجد تفهماً وتعاطفاً لهم في بعض «الأوساط». وهدفوا – وخاصة الحكم الإيراني– لإيجاد إشكاليات أمنية للسعودية وتوطين «بؤرة توتر» لها في حدها الجنوبي يستخدمونها عند الحاجة كورقة ضغط لخدمة أجندتهم التوسعية ومساوماتهم الإقليمية والدولية.
لقد فُرضت هذه المواجهة على السعودية، ولم تسعَى إليها أو ترغبها. وتعاطيها معها يؤكد حكمة وعراقة سياستها. فتلخص موقفها الرسمي في أن السعودية تتعامل بحسم مع «متسللين» اعتدوا على قراها وحدودها الجنوبية (وهم مخربين تلاحقهم دولتهم أصلاً) وأنها تعمل على تطهير المنطقة من بقاياهم وردعهم عن تكرار اعتداءاهم، وأنها تنسق مع الحكومة اليمنية في هذا المجال وأن ما يحدث «دليل على قوة العلاقات بين البلدين» وأن القوات السعودية لا ترغب في الدخول «ولو لشبر واحد في الأراضي اليمنية».
واستخدام مصطلح «المتسللين» من قبل السلطات السعودية وصف واقعي ودقيق يوضح حقيقة اعتداء هذه المجموعات، والطبيعة «الدفاعية» للإجراءات السعودية. وعلى أجهزة الإعلام أن تلتزم باستخدام هذا المصطلح «المُعَبِرْ»، وتبتعد عن إطلاق تسمية «الحوثيين» (الشائعة). وقياسا على هذا، الأفضل أيضاً استخدام تسمية «المتمردين» (وليس الحوثيين) لوصفهم في اليمن، لأنها تسمية تعبر عن حقيقة سلوك هذه المجموعات العدواني، ولأن استخدام تسمية «الحوثيين» قد يثير لبس وحساسيات لا داعي لها (ويجب أن يحرم المتمردون من استغلالها لصالحهم).
إن تسلل « متمردي» اليمن للحدود السعودية يثبت «غبائهم» السياسي، ويبين أنهم ورقة «طيعة» في يد إيران (وقد أحرقتها وأحرقتهم). فقد أخطئوا بظنهم أن تسللهم لحدود السعودية «سيخلط الأوراق» لصالحهم، وبتوهمهم – مستوحين «تجارب أخري»– أن التضاريس الجبلية للمنطقة ستحميهم وَتُمَكِنًهُم من خوض «حرب عصابات» طويلة. وفات عليهم أن طبيعة التوقيت والظروف مختلفة، ولا تسير في صالحهم. فقد أَلَّبُوا محيطهم عليهم حيث كشفوا عن حقيقة نواياهم الإجرامية وضررهم للجميع، وزجوا بأنفسهم ليقعوا بين «فكي كماشة»، وباتوا معزولين على جميع المستويات في بيئة «كارهة وطارده» لهم (خاصة في المناطق الحدودية السعودية). وفاتهم أيضاً أن «بغيهم» جاء على من يعرفونهم ويعرفون منطقة عملياتهم جيدا، وقادرين على التعامل معهم فيها «بآليات محلية مناسبة»، وأن التجارب التي استوحوها أصبحت «كتاب مكشوف» يُسْتَفَادُ من دروسها وأخطاءها في محاربتهم. والسعودية ليست من «البساطة» بحيث يتم استدراجها لأجندتهم الساذجة.
ولا شك في أن الحزم العسكري و»كسر شوكة» المتسللين (المتمردين) أمر أساسي. ولكن لا يمكن محاربة مثل هؤلاء بالوسيلة العسكرية فقط، بل بوسائل متنوعة وفي إطار إستراتيجية شاملة تنطلق من منظور «كلي» و «طويل الأمد»، يتم فيها تنسيق عالي بين السعودية واليمن.
إن جوهر - ومفتاح نجاح – مثل هذه الإستراتيجية هو «أن تقوم البيئة الاجتماعية للمتمردين برفضهم وتتصاعد المقاومة المحلية لهم». وهذا يستدعي مراعاة عدة أمور: أولاً، دراسة تعقيدات وتداخل التركيبة الاجتماعية والثقافية لبيئة التمرد في اليمن، والعمل على حرمان المتمردين من انتهاز ذلك وتوظيفه لصالحهم. ثانيا، «تفكيك» النظرة «الكلية» للتمرد بتوصيف فئاته ودوافعها، والتمييز بين المتأصل إجرامهم والمغرر بهم والمتحالف معهم (لأسباب ظرفية معينة) و»المستفيد» من تمردهم، والتعامل «المتعدد الأبعاد» مع كل فئة بالوسائل المناسبة لها (متى ما أمكن ذلك). ثالثاً، توضيح تبعية القيادة الرئيسية للتمرد وانحرافها الفكري والعمل على أن تنال ما تستحق من جزاء «رادع»، مع بيان اختلاف مصالحها عن مصالح فئات التمرد الأخرى (ومن المعروف تاريخيا أن مثل هذه الحركات «تدمر نفسها» نتيجة لخلافاتها الداخلية). رابعا، ترشيد الدور الثقافي والإعلامي المهم لخدمة هذه الإستراتيجية (وهنا يجب تنبيه وسائل الإعلام لخطورة ما يلاحظ من استخدام الأحداث – بالإيحاء أو التلميح – لتسجيل نقاط في «مشاحنات فكرية محلية ضيقة» ضد هذا الطرف أو ذاك).
إن المتسللين والمتمردين – ومن يساندهم – مدحورون لا محالة (بإذن الله)، مهما طال عدوانهم وتطورت أحداثه. وإن تماديهم في غَيِهِم وإجرامهم في «أي ميدان» سيؤلب الرأي العام العربي والإسلامي والقوي الإقليمية والدولية عليهم. وما يؤلم فقط هو أن عبثهم الإجرامي سيتسبب، وللأسف، في معاناة أبرياء وإهدار طاقات وموارد وإضرار بمصالح مجتمعهم وبمصالح الأمة العربية والإسلامية.
ومن يريد أن «يُنَاكِفْ» السعودية باستغلال ما يحدث في «بهلوانيات»، يضر بنفسه. فالحبل الذي يقفز عليه «ضعيف»، والهوة تحته «سحيقة»، وخطر السقطة «يدق عنقه». والمؤشرات تنبئ بأن المواجهة أصبحت «مكشوفة» مع أجندة الحكم الإيراني التوسعية، والموقف «موقف توحد»، وخطورته «تحدق» بالجميع. الوعي العربي زاد، و«البيئة المشوشة بدأت تصفو» ولم تعد مواتية للمناورات والخداع، والمصالح العربية «الحيوية» على المحك، ولا توجد فُسْحَة «للاصطياد بالماء العكر». ومن «يتهور» و«يقفز» سيجد نفسه في النهاية «عاريا» وفي مواجهة مباشرة وخاسرة مع مجتمعه.
أما بالنسبة للسعودية، فليس لهؤلاء المتمردون المتسللون أي قبول أو تفهم على أي مستوى في المجتمع السعودي. ولم يحققوا أدنى مكسب، وغاية ما عملوه هو أنهم – بتصرفاتهم العدوانية والإجرامية المتكررة ضد السعودية وأمنها– نبهوا المجتمع السعودي لخطرهم (وخطر من ورائهم) واسْتَعْدَوْهُ كلياً عليهم وتماديهم في عدوانهم وغيهم لن يؤدي إلا إلى زيادة الاستعداء وتعميق النقمة عليهم، ومزيد من توعية المواطن السعودي بالمتربصين بوطنه ومقدراته وأمنه.
الدولة السعودية «حليمة» تتصرف بضبط نفس وحكمة ومسئولية عالية وتجنح للسلم، ولكنها أيضاً دولة قوية وقادرة، ولها «أساليبها وأوراقها الخاصة والحاسمة»، وعندما «يبلغ الأمر حده» ويتعرض للإخلال بسيادتها وأمنها ومصالحها، يمكنها «رد الصاع مرات عدة». و«استقرار اليمن وازدهاره» مصلحة سعودية عليا، وأمن اليمن من أمنها، ولن تقبل بأن تهدده أي «بؤرة فساد»، وستساند اليمن إلى أن يتجاوز محنته. إن التسلل والتمرد في اليمن يُزْعِجْ السعودية بالقدر الذي يُضِرُ بالأبرياء، ويُؤلِمْ السعودية بالقدر الذي تُهْدَرْ فيه طاقات ومصالح الأمة العربية والإسلامية، أما الدولة السعودية فكيانها راسخ وأصيل، وثقة مواطنيها بالله سبحانه وتعالى ثم بقيادتهم ودولتهم عميقة، وتاريخها الطويل يحكي سجل حافل من التحديات الجسام التي واجهتها على «عدة جبهات»، وفي أوقات أصعب وإمكانيات أقل، واجهتها «بقيمها ومعادن رجالها الأصيلة»، وتغلبت عليها بحكمة وإباء (بفضل الله وتوفيقه). وما يحدث الآن ليس سوى أحد هذه التحديات، وستتغلب عليه بإذن الله، وتمضي في طريقها للمجد والعزة. وتدرك الأمة العربية والإسلامية أن السعودية «قلعة شامخة للإسلام والعروبة» وأن «أَمْنَهَا أَمْنٌ لَهُم».
ونسأل الله العزيز القدير، أن يديم نعمه علينا ويحفظ وطننا وأمتنا العربية والإسلامية، ويكفينا الشرور والفتن، ويوفقنا للخير.