جدران محفورة في الذاكرة
جدران محفورة في الذاكرة
> تخيل نفسك في مقهى مليء بالدخان في مكان ما في وسط أوروبا - براغ مثلا - في أواخر عام 1989. وتخيل نفسك تناقش المستقبل مع أصدقائك وأنت تحتسي القهوة الرديئة المحلاة بالسكر السيئ التي قدمها لها نادل قذر ووضعها على المائدة الوسخة أمامك. وتخيل ملابسهم رديئة الصنع ذات الألوان الأزرق والبني والأخضر الباهتة، التي تشير إلى الاقتصاد المخطط، في حين تبرز ملابسك باعتبارها مختلفة بصورة واضحة. قد تجد على نافذة المقهى ملصقات تتحدث عن انتصار الثورة. وينعى أحدها ''الرفيق الخوف''- المصطلح الذي ساد في السابق في كل مكان لتجسيد الأنظمة الاستبدادية، التي تم حديثا الإطاحة بها عن طريق الشموع والأعلام والشجاعة. ويظهر ملصق آخر انفجارا بسيطا كتب عليه كلمات تقدس الله. فقد أصبح الدين، مثل كثير من الأمور، مسألة حرية شخصية. ولكن هناك ملصقا ثالثا يبين المهمة المستقبلية. فهو يصور أوروبا التي تقسمها هاوية تمتد على طول الستار الحديدي القديم. وهناك سلم خطر من الشرق الكئيب إلى المرتفعات الغربية المشمسة. ويقول الملصق: ''العودة إلى أوروبا''. وقبل الحقبة الشيوعية، كانت دول مثل تشيكوسلوفاكيا وبولندا والمجر في قلب القارة، وليس دولها الفقيرة المنعزلة. وتبدو الهاوية منحدرة بصورة مخيفة. وتسلقها يعني الوقوف في طوابير طويلة أمام القنصليات الغربية قبل مواجهة المسؤولين المتشككين داخلها. وربما هللت أوروبا الغربية للثورة، ولكنها تخشى تدفق الحثالة من الشرق. وفي الخارج، كان الشرقيون يشعرون بأنهم فقراء بصورة مهينة, فمدخراتهم ورواتبهم ضئيلة. فأنت تشتري القهوة دون إلقاء نظرة على الفاتورة, ولكن حين يتجه الشرقيون إلى الغرب، يأخذون معهم السندويشات.
تنتشر أشباح الماضي في كل مكان. وبعضها مرحب به، حيث يتم مثلا بث الأغاني القديمة, التي تم حظرها فترة طويلة، على الراديو مرة أخرى. ويتم الاحتفاء بالأبطال الذين تعرضوا للذم في السابق في الدعاية الرسمية. إلا أن هناك أشباحا أخرى أكثر خبثا. فأوروبا الوسطى قبل الشيوعية لم تكن جنة. فما الذي سيظهر حين يذوب الجليد في المنطقة؟ هل سيشعر المجريون بالرضا من حدودهم الضيقة؟ وهل سيطالب الألمان الآن، الذين تم ترحيلهم بوحشية من Silesia وSudetenland، بالعدالة؟
ولم تختف أيضا الأشباح الحديثة للإمبراطورية الشريرة. هل ستتخلى الشرطة السرية، التي لا تزال قابعة في مخابئها، عن قوتها بشكل سلمي؟ وماذا سيحدث لملايين الأسرار عن المذنبين الموجودة في ملفاتهم؟ والأكثر إثارة للرعب، ماذا سيحدث إذا تغيرت الريح الآتية من الشرق؟ لا تزال مئات الآلاف من القوات السوفياتية تحتل المنطقة. فهل سيرحلون بشكل سلمي؟ هناك نخبة سياسية جديدة هشة تواجه كل هذه الأسئلة: المنشقون والمرتدون الشيوعيون وأساتذة الجامعات، الخائفون من مهمة بناء العدالة والازدهار على أنقاض الشيوعية.
ولو تم في عام 1989 التفكير في أوروبا الوسطى التي نشأت بعد 20 عاما، ستبدو حلما رائعا وهميا. فقد نشأ جيل كامل في مجتمعات حرة يحكمها القانون. وتبين أن المخاوف من الدمار الاقتصادي والفوضى السياسية لا أساس لها. وتسلقت عشر دول هذه الهاوية وانضمت إلى الاتحاد الأوروبي. وانضمت دولتان، هما كرواتيا وألبانيا، إلى حلف شمال الأطلسي. وعلى الرغم من المشكلات الجديدة التي لم يتم التوصل إلى حلها والتي تواجه المنطقة الآن، فإن الناخبين، وليس الغرباء، هم الذين سيحددون من يحكمهم وكيف. فقد تخلص القضاة والمحامون والشرطة من أغلال سيطرة الحزب الشيوعي. وقد تكون المحاكم بطيئة، والسياسيون حشريين، والرشوة منتشرة، ولكن لا يمكن لأي شخص الاعتماد على الإفلات من العقاب.
والاستثناء الكبير من ذلك هو يوغسلافيا، التي كانت تعد عام 1989 نموذجا لتعدد العرقية والتعددية، ومنطقة وسط بين الاشتراكية المخططة مركزيا وعالم الرأسمالية الغربي القاسي والبعيد. ولا تزال تجسد نموذجا، ولكن نموذجا مخيفا. فالعالم الخارجي لم يتمكن طوال عشر سنوات من وقف عربدة الميليشيات العرقية القومية التي حولت الأحقاد القديمة إلى انتقام دموي. وتوفي نحو 140 ألف شخص في الحروب في البوسنة وكرواتيا وكوسوفو، حيث كان السياسيون الاستبداديون يطهرون دولهم من أولئك الذي يعتبرونهم تخريبيين أو متدني المكانة.
وكان هذا أسوأ بكثير من أي شيء شهدته أوروبا الوسطى قبل الحرب، على الرغم من أنه يتضاءل مقارنة بالفظائع التي تم ارتكابها في عهد النازية. وحتى خارج يوغسلافيا السابقة، لا تزال الأفكار الاستبدادية والمتعصبة تخيم على المجال السياسي. فالأحزاب العنصرية علنا تأتي وتذهب في بعض البرلمانات؛ وأحدها في الحكومة في سلوفاكيا. ولكنها لم تكتسب سلطة سياسية كاملة في أي دولة خلال الـ20 عاما الماضية. ويبعث هذا على الارتياح والفخر.
والإنجازات الاقتصادية ليست أقل إثارة للدهشة, ففي نهاية عام 1989، كان من السهل تصور أن تظل المنطقة تعاني الفقر لعقود من الزمن. ولا يتذكر سوى أولئك الذين تجاوزوا الستين من العمر الكيفية التي كان يعمل بها الاقتصاد. وانتقدت الدعاية الرسمية لعقود عديدة الرأسمالية وشبهتها بآكلي لحوم البشر. وكانت الصناعة مملوكة للدولة ومدارة من قبل موظفي الحزب. وكانت الإدارة تعني البحث عن الموارد ثم تخزينها، وليس التعامل مع التكاليف والعملاء والمنافسة. وكانت التجارة الخارجية تنطوي على المساومة مع مخططي الدولة باللغة الروسية، وليس إتمام الصفقات باللغة الإنجليزية. لذا، حتى لو تم منح قوة الإرادة لتحقيق استقرار الاقتصاد وخصخصة أملاك الدولة وتحرير الأسواق .. هل سينجح ذلك؟ وقد أشار Lech Walesa، أول رئيس بولندي منتخب بصورة حرة بعد الحرب، إلى أنه من السهل تحويل حوض السمك إلى حساء السمك, إلا أن عكس العملية أصعب بكثير.
إلا أن الأسعار الحرة وأسعار الصرف الحرة والتجارة الحرة وأسواق العمل الحرة والخصخصة حققت نجاحا هائلا. فقد أطلق دافع الربح - مهما كان بشعا أو غير أخلاقي أو مبتذلا - العنان للمواهب المكبوتة لملايين رجال الأعمال. وجاءت مجموعات حاشدة من المستثمرين الأجانب، الذين ردعهم في البداية ندرة الهواتف ووعورة الطرق وتعامل المسؤولين البغيض، وجلبوا معهم قدرا هائلا من المواهب الإدارية والخبرة الفنية. وجاءت الموجة الأولى بسبب انخفاض تكاليف الأيدي العاملة. واجتذبت عضوية الاتحاد الأوروبي الموجة الثانية. وحسّن الاتحاد الأوروبي الحياة بطرق أخرى أيضا، حيث فرض وتيرة الإصلاح كشرط للعضوية ومنح مليارات اليورو من أجل التحديث. وأصبحت الحدود التي كانت مغلقة في السابق بسبب حقول الألغام مجرد خطوط على الخريطة. ويمكنك قيادة سيارتك من بحر البلطيق إلى البحر الأبيض المتوسط دون إظهار جواز سفرك. وأصبحت المياه والهواء أنظف مما كانا عليه عام 1989، وأصبح النقل أسرع وأكثر أمنا. وكانت الـ 20 عاما الماضية بمثابة منجم ذهب بالنسبة إلى الشباب المرن الطموح. وكانت الحياة صعبة للغاية بالنسبة إلى الخاسرين - المسنين والخجولين والمكتئبين. ولكن خارج ألمانيا الشرقية السابقة، لا يلعب الحنين إلى الماضي دورا في السياسة. ولا يلعب الحزب الشيوعي دورا سياسيا إلا في جمهورية التشيك. وفي دول أخرى، أعاد دعاة الدولية البروليتاريون تسمية أنفسهم يساريين وسطيين.
والإنجاز الكبير الثالث، إلى جانب الديمقراطية والازدهار، هو الاستعادة الجزئية لمشاعر الغيرة على المصلحة العامة، والثقة، والنزاهة، واللطف. وتفرض الشيوعية عادة خيارات أخلاقية مروعة: اتهم زميلك وإلا لن يذهب ابنك إلى الجامعة أبدا. فهي تدعو إلى الإيثار ولكنها تزرع الأنانية. ولا تستطيع الإحصاءات الكشف عن تراث 50 عاما من الأكاذيب والخوف. وتبين أن تحرير الشعوب الأسيرة في أوروبا الوسطى أسهل بكثير من تحرير عقولها الأسيرة. فقد أمضى معظم البالغين في المنطقة سنوات تكوينهم تحت ظل الشيوعية. ولن يتلاشى ظل الشيوعية إلا حين لا يكون لدى أولئك الذين يتولون السلطة أي ذكريات عن الحكم الاستبدادي.
وخيبة الأمل الأكبر هي استمرار امتلاك النخبة في النظام القديم السلطة والثروة، التي أثبتت أنها أكثر نجاحا في إدارة الرأسمالية التي انتقدتها من إدارة الاشتراكية التي دعت إليها. فقد نجح رؤساء الحزب وتابعيهم من الشرطة السرية في تخزين الأموال في الخارج، واستخدموها لشراء الأصول بأسعار بخسة في سنوات التسعينيات الفوضوية.
ولا يزال النصف الغربي من القارة يبدو بعيدا حين ينظر إليه من الوسط، والعكس صحيح. ويقول Toomas Hendrik، رئيس أستونيا اللاذع الذي تلقى تعليمه في أمريكا، إن الغربيين يعدون في أنفسهم الأشخاص من الدول الشيوعية السابقة ''معوقين مزعجين يمكن تجاهل آرائهم''. ويبدو عام 2009 جيدا إذا تم النظر إليه مقارنة بأواخر 1989. ولكن سكان أوروبا الوسطى معذورون في النظر إلى الحاضر بتشاؤم بعض الشيء >