هل سيواصل قطار التخصيص رحلته رغم إفرازات الأزمة العالمية؟
عكفنا على مدى العقود الثلاثة الماضية على إقناع طلابنا وقرائنا بسلامة وصدق منطق اقتصاد السوق، والذي عززه تفككك الاتحاد السوفياتي عام 1989م. نعم..عقدنا المقارنات بين الرؤية الاشتراكية والقطاع العام وبين الرؤية الرأسمالية والقطاع الخاص، وانتهينا إلى أن من الأفضل أن تخرج الدولة من الحياة الاقتصادية، وألا تقحم أنفها في أمور هي أسمى من أن تتدخل فيها، باعتبار أن الملكية الخاصة تتفق مع الغريزة الإنسانية، وأن السوق أقدر على معرفة احتياجاته.
فقد أثبتت التجربة الاشتراكية عالمياً بلاء وفساد وبيروقراطية القطاع العام، ومن ثم، كان الإهدار والتردي نتيجة منطقية. هكذا كنا نلقن أبناءنا في الجامعات وقراءنا في الصحف، خاصة أن التجربة الرأسمالية الجديدة كانت في أوج نجاحها، مزهوة بانتصارها وإزاحتها الرؤية والنهج الاشتراكي البالي. ولكننا وبعد أقل من عشر سنوات، وتحديداً منذ منتصف تسعينيات القرن الـ 20 (1995م) بدأنا نجني حصاد التطبيقات الليبرالية!
نعم شهدنا طفرة في تقنيات الاتصالات والمعلومات ومن ثم المد الثقافي والمعرفي، كما بدأت بعض الأمم في النهوض. نعم هناك إيجابيات لا ينكرها إلا جاحد. ولكن، وأكرر وأكرر، ما الحصاد الكلي لعملية التحول تلك؟! هل حققت البشرية الرفاهية؟ هل وفر القطاع الخاص العيش الرغيد؟ هل بات الناس أكثر سعادة؟ هل تعززت الطبقة الوسطى في المجتمعات كافة؟ هل حقق عالمنا الاستقرار الاقتصادي والمالي... إلخ؟ بل هل تعززت المساواة وتقاربت الهوة بين الطبقات؟
لابد من أن نفتح كشف حساب، خاصة بعد حدوث أزمة الغذاء العالمي، التي سبقت مباشرة الأزمة الاقتصادية والمالية العالمية! والتي ستتكرر طالما تركنا مصائرنا وسلعنا الاستراتيجية للقطاع الخاص. وعليه، ويكون السؤال الحاسم...هل سيستمر قطار التخصيص في رحلته، أم أنها الفرصة لالتقاط الأنفاس وإجراء تقييم شامل وموضوعي للتجربة؟ خاصة في ضوء توجه المراكز الرأسمالية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة للتملك (القطاع العام) ولنا في البنوك وغيرها من الشركات المالية والصناعية المثل والعبرة. فهل هي ردة على التخصيص أم أنها مرحلة لالتقاط الأنفاس؟
في اعتقادي - وكباحث معني بهذا الأمر حتى قبل وقوع الأزمة الأخيرة - أننا وكدول نامية، وقعنا في خطأ فادح عندما طبلنا وهللنا للنهج الليبرالي. فلكل مجتمع قسماته وسماته ومكنوناته وخصائصه التي تميزه على غيره من المجتمعات. ومن ثم، فإن ما يصلح لمجتمع قد لا يصلح لمجتمع آخر، وما يصلح في المجتمعات المتقدمة، لا يصلح بطبيعة الحال في مجتمعات نامية. بل إن الأزمة العالمية الأخيرة، أكدت - وبما لا يدع مجالاً للشك - فشل هذا التوجه حتى في معاقل الليبرالية الجديدة. فلم يضمن القطاع الخاص الرفاهية لتلك المجتمعات. فهاهي الولايات المتحدة، وحتى قبل الأزمة، تشهد تفاوتاً اجتماعياً صارخاً، بل وبحسب إحصاءات الأمم المتحدة ، كان يوجد في أغنى بلد في العالم نحو 35 مليون شخص يعيشون تحت خط الفقر، مقارنة بأقل من عشرة ملايين في منتصف الثمانينيات ونحو 45 مليون بعد الأزمة!! أي أن الهوة تتسع بشكل مخيف بين من يملكون ومن لا يملكون.
وحتى أقرب لك الصورة عزيزي القارئ، لتدرك الواقع المرير للتجربة العالمية، دعني أعطك مثالاً حياً من بلدي. فأنا فلاح في الأصل – وهذا شرف لا أدعيه – فقد فلحت الأرض وأعرف جيداً متطلبات الفلاح وواقعه. في ظل التطبيقات الاشتراكية كان كل شيء يسير على ما يرام، الفلاح يزرع أرضه ويتلقى دعم الدولة ومساندتها، ثم تشتري الدولة المحصول ويحصل الفلاح على الدخل الذي يعينه ويعين أسرته.
ما الذي حدث؟ الذي حدث هو أنه منذ منتصف الثمانينيات بدأت الدولة في تحرير هذا القطاع الاستراتيجي، فتركت الفلاح للقطاع الخاص، حيث حررت كل شيء، بدءا من الدورة الزراعية، فالفلاح بات حراً في أن يزرع ما يشاء، كما حررت مدخلات الإنتاج الزراعي ومخرجاته. النتيجة هي الفوضى, هذا أقل وصف يمكن أن أصف به الوضع الحالي. سيطر القطاع الخاص على مرحلة مدخلات الإنتاج ومخرجاته، فبدأ في بيع المدخلات للفلاح بأسعار فلكية، وفي المقابل، وفي ظل غياب الدولة (الحرية) بدأ التجار في خلق تكتلات لبخس أسعار المحاصيل، النتيجة هي فرار الفلاحين من أراضيهم بحثاً عن مصدر آخر للدخل، وتوجه المضطرين منهم إلى إنتاج محاصيل ترفيه، كالفراولة والكانتلوب التي تتطلبها الأسواق الغنية، وترك في المقابل المحاصيل الاستراتيجية كالقمح والأرز والقطن (هل تتذكرون القطن المصري؟) أحيانا الله وإياكم!! إن أزمة الغذاء التي شهدها عالمنا ليست فقط وليدة زيادة أعداد البشر أو استخدام النباتات كوقود، ولكن هناك أسبابا جوهرية وأكثر أهمية أشعلت هذا السوق، وفي مقدمتها تركه لمضاربات وتكتلات القطاع الخاص.
الأكثر من هذا أنه نتيجة لتكتل تجار القطاع الخاص من مقدمي الخدمات (كالبذور والمبيدات والمواد الكيماوية... إلخ) أو الذين يشترون المحاصيل، يتفق هؤلاء التجار قبل جني المحصول على رفض الشراء، وهم يعلمون جيداً أن الفلاح في حاجة ماسة إلى السيولة لأن ثمن المحصول هو مصدره الرئيس، فيرفضون الشراء، حتى يتراكم المعروض. وفي ظل طلب محدود، يضطر الفلاحون لبيع محاصيلهم بأسعار كثيراً ما تقل عن سعر التكلفة! ليس هذا فقط، بل يقوم هؤلاء التجار بحبس المنتج بعد شرائه وتعطيش الأسواق، حتى ترتفع أسعاره، فيبدأون في النزول إلى السوق. فإذا كان قد اشترى طن الأرز من الفلاح مثلاً بـ 300 ريال، تجدهم يبيعون الطن نفسه بـ 1500 ريال!!
المشكلة تكمن في أن الزراعة قطاع غير منظم، أي أنه ليس له جمعيات توجهه وتحميه وتدافع عن حقوقه. وعندما يرى الفلاحون قبل دخول موسم زراعة الأرز أن الطن يباع بـ 1500 جنيه، تجدهم يتحركون تحرك القطيع، فيزرعون الأرز اعتقاداً بأنه سيباع بهذا السعر، ولكن التجار لهم رأي آخر. وهكذا دواليك! وليحاسبني أحد على ما ذكرت.
في الحقيقة ينبغي التأكيد على أن الاشتراكية ليست مبرأة من كل عيب، فعليها مآخذ لا يمكن أن ننكرها، ولكن الرأسمالية والقطاع الخاص لم يقدم البديل الناجع، بدليل الأزمات المتتابعة، وحالة عدم اليقين في كل شيء. أهذا ما وعدتنا به الرأسمالية وسدنتها؟ ألم يقل فرانسيس فوكوياما عام انهيار الاشتراكية (1989م) بأنه الانتصار الأبدي للرأسمالية، وعلى يديها ستنعم البشرية بالرفاهية والسلام؟ ماذا جنينا؟ إنه التفاوت الصارخ، وتلاشي الطبقة الوسطى في أغلب المجتمعات، وباتت الثروات أكثر تركزاً في أيدي قلة من رجال القطاع الخاص! هل كانت ستحدث أزمة غذاء في ظل الاشتراكية تشبه تلك التي شهدناها في العامين 2007 و2008م والتي لم يوقفها سوى الانهيار العالمي؟
ماذا أضاف القطاع الخاص إلى فرص العمل والرفاهية؟ بل ما الإضافة الحقيقية إلى الأصول الإنتاجية، وهل بدأنا نحصل على سلع عالية الجودة، ولنأخذ السلع الغذائية والمنتجات الزراعية كمثال؟ لقد تغير طعم كل شيء بسبب المنتجات الوراثية والتي عبثت فيها يد الإنسان. هل أولى القطاع الخاص اهتماماً بقضايا مصيرية مثل البيئة والتلوث؟ في الحقيقة، لا يعنيه إلا ما يدخل خزانته في نهاية اليوم، ولهذا فإن تلوث الهواء أو المياه أو إهدار الصحة كلها أمور ثانوية، يمكن تجميلها بإعلان تليفزيوني منمق وانتهى الأمر.
لقد منيت تجربة التخصيص في كثير من الدول النامية بالفشل، فلم تتحقق الكفاءة ولم ترتفع الإنتاجية، بل بادر الملاك الجدد إلى طرد العاملين تحت مسميات لطيفة كالتقاعد المبكر وغيره، بل قاموا بتبييض أراضي المشاريع العامة التي حصلوا عليها بأسعار بخسة، والاتجار بها وإشعال الأسواق، حتى حدث ما حدث.
أكرر، لا أنكر أن هناك تجارب ناجحة، ولكن على المستوى الاقتصادي الكلي «تُبنى الأحكام على الكثير الغالب وليس القليل النادر». فالعبرة دائماً بالحصاد الكلي. والحصاد - للأسف الشديد - كان مريراً، فأزمة عالمنا ليست سوى نتاج لجشع القطاع الخاص، الذي تُرِك له الحبل على الغارب، فعاث في الأرض فسادا، وتحول العالم إلى كحكة يتنافس على قضمها قلة من المضاربين الذين يتشرنقون يوماً بعد يوم، والذين هم على استعداد للمضاربة بأي شيء. أكرر بأن هناك حالات وتجارب خاصة جادة ومشرفة، ولكن كم تمثل؟
إذاً في ضوء هذا الوضع، وما أفرزته التجربة العالمية، مطلوب منا كدول نامية أن نراجع أنفسنا، ونجري تقييماً شاملاً لحصاد التجربة، فهل تحققت الأهداف التي وضعناها لعملية التخصيص؟ هل تحققت الكفاءة وتعددت الخيارات وارتفعت مستويات الجودة، هل تضاعفت فرص العمل للمواطنين، وهل تحقق التوازن الاقتصادي والاجتماعي وتوزعت الدخول بشكل يضمن هذا التوازن؟ كل هذه أمور تتطلب منا اهتماماً خاصاً في هذه المرحلة الحاسمة من تاريخ الاقتصاد العالمي. والله أعلى وأعلم.