ديفيد.. واستراتيجية الشركات!

قاد شركته عبر العقود ومكنها من البقاء والنجاح في حين أقفلت الشركات من حوله أبوابها, معلنة نهاية مشوارها وفشلها في البقاء والمنافسة في بيئة وصفها ديفيد «بالمجنونة». كان ذلك زمان السبعينيات والثمانينيات التي حولت بريطانيا من دولة يعتمد اقتصادها على الصناعة إلى دولة تعتمد على الخدمات. كان ذلك زمان اتحاد العمال والإضراب عن العمل, وكان ذلك هو الوقت الذي قررت فيه الحكومة أن تسحق قدرة اتحادات العمال لإلحاقها بالشلل لاقتصاد البلاد. خلال مسيرة التحول من الصناعة إلى الخدمات, شهد قطاع صناعة الحديد والأواني النحاسية التي اشتهرت بها مدينة شيفيلد خروج الغالبية العظمى من الشركات من السوق. يقول ديفيد صاحب الشركة ووارثها عن أبيه وجده عن تلك الأيام «في بادئ الوقت, كانت الشركات الكبرى هي الأكثر تأثراً, ثم لحقت الأزمة بنا ذوي الشركات المتوسطة. كنت أزور إحدى الشركات الكبيرة التي يديرها أحد أصدقائي وكان يطلعني على خططهم المستقبلية. لم يبهرني التفصيل الدقيق لاستراتيجياتهم التي فصلت في كتيبات عديدة والتي أسهم فيها عديد من مديريهم ومهندسيهم. كنت مشغولا بالتفكير في كيفية البقاء, لم أكتب سطراً واحداً ولم أخطط على ورق. كنت أتابع السوق وأتبع إحساسي, هكذا كانت استراتيجيتي. لقد نجحت في حين فشلوا».
تعرفت على ديفيد عندما أرسل لي إيميلا طالباً المساعدة على إعادة هيكلة شركته وخاصة أنه بلغ من العمر ما لا يمكنه من المواصلة في إدارة الشركة بشكل مباشر. عند أول زيارة لشركته, أخذني بسيارته ليفرجني على أطلال من غادروا المكان, مصانع وشركات لم يبق من أطلالها سوى القليل. سألته عن لجوئه إلى عملي الاستشاري وهو الذي تعامل مع أكبر أزمة حلت بصناعته بكل نجاح؟ قال «تغير الوقت, لم يعد الوقت كما أعرفه! لم يعد إحساسي متابعا لمجريات السوق وتغيرات البيئة, لم أعد قادرا على استشفاف المستقبل من أحداث اليوم, أحتاج إلى التغيير وتوريث ما حافظت عليه وبنيته لابنتيَّ, لا يمكنني توريث رؤيتي للشركة بسهولة, أحس بأن السوق يتغير بشكل لم أعد قادرا على فهمه بسهولة...».
يعتقد كثير من المديرين التنفيذيين أن الاستراتيجية هي ما كتب أو فصل أو درس أو حلل إلى أدق الدرجات وأصغرها. كثير من الشركات يركز على التخطيط ودرجات تطبيقه, في حين أن الاستراتيجية ليست تخطيطا وخطوات وبرامج تعطي تعليمات للمديرين. الاستراتيجية هي مفهوم شامل وكبير يتم من خلاله اتخاذ القرارات بطريقة فعالة ويعطي المديرين توجيها أفضل لتطوير أدائهم وأداء شركاتهم. الاستراتيجية هي مفهوم يعنى بتحقيق الفوز في المنافسة ويضمن البقاء للشركة, هي مفهوم يعنى بالمستقبل من خلال جعل الشركة الأكثر أهمية في السوق, أن يجعلها أكثر ارتباطا بالبيئة التنافسية المحيطة بها فتصبح أكثر تجاوباً مع متغيرات البيئة وأكثر مرونة في ملاءمة التحديات والتغييرات في السوق.
الفكر الاستراتيجي السليم يولد من خلال عاملين رئيسيين مهمين ألا وهما: 1) أن يكون لديك فهم كبير بمجال صناعتك أو قطاع تخصص شركتك. في هذا العامل, قد تكون إما مديرا يمتلك إحساسا عاليا ودقيقا يمكنك من متابعة السوق والبيئة التنافسية بشكل يمكنك من استباق الأحداث المستقبلية في السوق (مثل صاحبنا ديفيد), أو قد تكون مديرا يعتمد على تحليل المستشارين والمتخصصين لكي يوّلد لك تصور معين عن حالة السوق وما قد يؤول إليه وفي هذا فأنت لا تمتلك القدرة على استشفاف ما قد ينتج عن قراراتك من تغييرات وفي الغالب ستكون لك استراتيجية مكتوبة ومفصلة أشبه منها بالتخطيط وليس المفهوم الاستراتيجي الفريد بشركتك. 2) التعامل مع التغييرات الخارجية المحيطة بالشركة لن يتم بنجاح ما لم يكن للمديرين فهم كبير ودقيق بموارد شركاتهم والقدرات التي تمتلكها الشركة. هذا الفهم يجب أن يتخطى مسألة معرفة مواقع الضعف والقوة في الشركة فقط إلى معرفة أماكن ومساحات الإبداع والاختراع في الشركة وهذا يشمل بالدرجة الأولى «الإدارة» في الشركة.
نجح ديفيد في امتلاك العاملين ولكنه لم يكن موفقا كثيراً في العامل الثاني وخاصة في التعرف على أماكن الإبداع في الشركة, لهذا فشركته بقيت متوسطة الحجم على مر العقود, مَلِك استراتيجية البقاء (الدفاع) وليس التقدم والانتشار. نجاح ديفيد الفعلي هو في العامل الأول وخاصة في امتلاكه الحدس الدقيق وخلقه رؤية لشركته لم يقدر على رؤيتها الآخرون ممن خرج من السوق. هو الآن قلق لأنه لا يمكنه توريث هذه الرؤية حتى وإن درب ابنتيه على طرق تحليل السوق ومعرفة اتجاهاته المستقبلية. لهذا فإن هيكلة الشركة أصبحت أكثر من ضرورية فهو يدرك أن المستقبل من بعده يحتاج إلى تركيبة إدارية جديدة تختلف رؤيتها!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي